هاني المصري | ايه بقي الحكاية !
ايه بقى الحكاية بقلم الفنان هاني المصري
هاني المصري هو أحد أبرز الفنانين المصريين الذين أحدثوا تغييرا بلمساتهم الساحرة سواء في المسرح المصري وفي الأفلام العالمية في هوليوود
ووُلد هاني المصري في سنة 1951، وتخرج من قسم الديكور بكلية الفنون الجميلة في سنة 1974، وعمل مهندسا للديكور بمسرحيات ناجحة، منها “العيال كبرت”، و”شاهد ما شفش حاجة”.
وفي فترة الثمانينيات، انتقل هاني مصري للعمل في شركة “والت ديزني” في هوليوود، وفي سنة 2005 قرر العودة إلى القاهرة.
معلومات أكثر عن الفنان هاني المصري من TEDxCairo 2014
اليوم أعيد نشر هذه السطور كما كتبها هاني المصري من أكثر من 7 سنوات, لإحياء ذكرى هاني المصري وإثبات حقه في الفكرة والنص بعد أن نسبها البعض لأنفسهم
يوسف الدالي
ايه بقى الحكاية ؟
محتوى المقال أخفي
مقدمة الحكاية
الكام بوست اللي فاتوا.. كانوا مجرد مقدمة.. عشان احكي لكم حاجة مهمة..!
بقالي سنين.. من قبل ما اسافر امريكا .. و انا الموضوع ده شاغلني جدا..
“احنا بقينا كده ازاي.. و ليه.. ؟”
ليه البشر عمالين يحاربوا بعض..؟ بالرغم ان كل مبادئهم و اديانهم بتوجههم لعكس كده.. و بيصرفوا علي التسليح و الدمار اكتر من اي حاجة تانية..!
ليه ما فيش عدل في المجتمعات.. ليه فيه ناس بتموت من الجوع.. و ناس تموت من التخمة.. و ناس ما بتقبلش الناس التانية علي لونهم .. او جنسهم.. او اختلافاتهم..؟
و ليه اخيرا .. عمالين ندمر الكوكب الوحيد اللي نقدر نعيش عليه.. و ما نعرفش غيره.. و مالناش غيره..؟
و بالرغم من مشغوليات الحياة.. و السفر .. و الشغل.. والمشاريع..
بافكر في الموضوع ده كتير.. و بادور علي مراجع.. و اقرا تفاصيل.. و مقالات.. و وجهات نظر مختلفة.. و ادعبس في كتب عشان احاول افهم..!
و ساعات تجيلي فكرة .. او اقرا حاجة.. تخليني افتكر اني وصلت للسبب.. او للحدث اللي الاقي عنده مفترق الطرق.. و بعدين الاقي حاجة تخليني ارجع لورا كمان.. لزمن اقدم .. و احداث حصلت في فترات نسيها الزمن .. و تناساها البشر ..!
طبعا.. تفاصيل رحلتي مع المشكلة دي.. اكتر من انها تتحكي في بوست او مقالة.. و غالبا محتاجة كتاب كامل .. عشان اقدر احط فيه مراجع.. و احداث.. و وصف مفصل للمشاعر اللي مريت بيها خلال المشوار ..
انما.. اللي اقدر اقوله.. اني اضطريت اني أضع جانبا عادات.. و تقاليد.. و افكار مسبقة.. و معتقدات عزيزة علي قلبي جدا .. عشت بيها طول عمري.. و اتحفرت من الصبا في عقلي .. وكانت كلها حايشة تفكيري عن التقدم..
اضطريت اتخلي عنها عشان اقدر افهم و الاقي إجابات لبعض الأسئلة..!
و طبعا.. عارف انه ممكن يكون صعب علي ناس كتير انها حتي تفكر.. مجرد التفكير.. في انها تعمل زيي..!
انما.. اللي عاوز يكمل معايا.. كل اللي باطلبه منه .. انه يحاول يعمل زيي لفترة محدوده… علي ما يقرا اللي باكتبه ده.. و لو حس انه مش قادر يكمل.. يتركه فورا.. و حتي ينساه تماما..!
اما اللي عاوز يمشي لآخر المشوار.. فكل المطلوب انه ما يحاولش يشوف في كلامي اكتر من اللي باقوله.. حتي لو كان غريب عليه.. و يعتبر الكلام ده مجرد حدوته بتحصل.. “في قديم الازل.. في مجرة بعيدة .. بعيدة” زي في حرب الكواكب كده !
في الاول .. لازم اقر اني مش فيلسوف.. و لا عالم .. و لا مهندس.. و لا مؤرخ.. ولا متعمق في الانتروبولوچي.. و لا علم الحفريات والآثار.. ولا تاريخ الحضارات.. و لا تاريخ الديانات .. و لا حتي فنان غير طبيعي..!
و كل اللغات اللي باقراها هي العربي و الفرنسي و الانجليزي.. صحيح اني اعرفها بتعمق.. بس مش لدرجة اني اقول اني متخصص..
انما علي مر الايام .. قريت في كل المواد دي.. اللي نادرا ما بيقرا فيها.. و يهتم بيها كلها شخص واحد.. و قارنتها ببعض.. و استفدت من بعضها لفهم البعض الآخر.. فاتكونت في عقلي خلطة خاصة .. كانت مهمة لانها سمحت لي اني اشوف الصورة الكبيرة.. و اقدر افهم تفاصيلها.. زي ناس تانية.. مش قليلة في العالم.. انما مش كلهم صوتهم واصل للناس..!
اللي ممكن ينفعنا قوي .. ما دام حا نمشي مع بعض شوية.. اننا نسيب علي الباب مجموعة حاجات.. و ناخد معانا حاجات تانية ..!
نسيب اولا كبرياءنا.. و احساسنا بأننا ـ كبشر يعني ـ احسن حاجة.. و اقوي حاجة.. و ابدع حاجة.. و نبص للمخلوقات التانية علي انهم اخواتنا في الخليقة..
و نسيب كمان كل القيم اللي اتقال لنا من الصغر .. انه لا حياة من غيرها.. او انه “حرام” اننا نفكر في التعدي عليها..
و نسيب اخيرا ضيق الافق .. و التعصب.. و التعنت.. و خصوصا اللماضة اللي بتنتج عنهم ..
و ناخد معانا فقط .. ضمير صاحي.. و عقل متفتح.. و نية صافية.. و استعداد لتقبل الافكار .. حتي لو ما عندناش استعداد نمشي وراها ..!
اللي فينا عنده استعداد يعمل كده.. يتفضل معانا.. و اللي ما يقدرش : ما يضيعش وقته معانا..!
طيب.. نبتدي الرحلة..
ظهر الانسان الحديث علي الارض بعد ملايين السنين من تكون الكوكب .. و بعد ظهور كل الممالك النباتية و الحيوانية.. من حوالي ٣٠٠ الف سنة..
مش باتكلم عن المخلوقات المتطورة اللي سبقت الانسان الحديث.. و اللي تقدروا تتعرفوا عليها.. و علي تاريخها في اي كتب .. او حتي علي النت..
باتكلم علي الناس اللي زيكم و زيي .. بنفس الخصائص.. و نفس الذكاء.. و نفس الامكانيات الذهنية و العاطفية و الجسمانية..!
طفرة.. حصلت في اجدادنا الاقل تطورا.. اللي كانو انواع تانية من البشر.. و فضلوا عايشين الاف السنين .. معانا.. لغاية ما انقرضوا ..!
و الطفرة دي نتج عنها الجنس البشري الحالي..
و علشان ذكائهم.. عرفوا يولدوا النار بشكل متطور في اي ظروف .. و قدروا يستعملوها في صناعة الفخار.. و الطبيخ.. و صناعة الادوات..
و قدروا يفهموا الخامات اللي حواليهم .. زي انواع الحجر.. و انواع الاخشاب .. و انواع الجلود..!
و كانت حياتهم معتمدة .. زي باقي المخلوقات.. علي الطبيعة..
يقطفوا فواكه .. و خضروات.. و اعشاب.. و حبوب .. و ياكلوها خضراء.. او يحولوها لطبيخ.. او يعصروها عشان يستخرجوا زيوتها..
و يصطادوا حيوانات صغيرة.. او كبيرة.. و يستعملوا جلدها.. و قرونها .. و عظمها.. في صناعة الادوات و الملابس بعد ما ياكلوا لحومها .. و يخزنوا شحمها للطبيخ.. او للمساحيق ..
و كانت الحياة .. في كنف الطبيعة.. مسالمة و بسيطة.. و مش عاوزة شغل كتير.. و مع تشغيل المخ.. كانت جميلة و كافية .. و هنية..!
و ساعات.. كانت الارض تشح بالثمار و الفرائس .. بعد ما عاشت قبيلة عليها لفترة زمنية..
فكانوا يرحلوا لمنطقة مجاورة .. و يتحركوا في دايرة كبيرة.. لغاية ما يرجعوا للمنطقة الاولي بعد سنين.. فيلاقوها اتملت تاني بالفواكه.. و الصيد.. فيقعدوا فيها تاني.. و تستمر الدايرة..!
و لما كانت القبائل تكبر زيادة عن الحد اللي يخلي فيه توازن بين الطبيعة و التواجد الإنساني.. اللي هو تقريبا ٢٠٠ او ٢٥٠ فرد للقبيلة الواحدة.. كانت بتنقسم تبعا للعلاقات العائلية.. فياخد الابن الاصغر.. زوجاته و اولاده و ازواجهم و احفاده .. و يرحلوا لمناطق ابعد عن منطقة النفوذ بتاعة القبيلة الام .. و يكونوا قبيلة تانية.. في منطقة نفوذ تانية.. زي ما بتعمل قبائل المخلوقات التانية.. زي الاسود .. و الفيلة.. والقردة .. و الجاموس الوحشي..!
اسمحوا لي اشرح حاجة.. حا تنفعنا في الرحلة :
فيه تجربة اتعملت في معمل حديث… عشان نحاول نفهم حكاية التوازن مع الطبيعة و بتشتغل ازاي.. !
مجموعة علماء جابوا قفص كبير.. له درج للأكل يساع ما يكفي يوميا لخمسين فار تجارب..
و حطوا في القفص جوز فيران.. و سابوهم يتكاثروا..
و كل يوم .. يملوا درج الاكل لآخره..
و بسرعة اتكاثرت الفيران في القفص .. لغاية ما وصلت لخمسين فار..
و بعد ما عدت الخمسين بتلات او اربع فيران.. توقفت سرعة التكاثر بشكل واضح.. و ما رجعتش لمعدلها الطبيعي الا لما ماتت الفيران العجوزة.. و تركت مكان لفيران جديدة.. و بعد سنوات .. فضل عدد الفيران في القفص يتراوح بين ٤٥ و ٥٥ فار .. لا يزيدوا و لا يقلوا..!
الا لما كانوا العلماء بيزودوا الاكل عمدا.. عشان يعرفوا حا يحصل ايه..!
و فهم العلماء الفكرة : كل ما زاد الاكل.. زاد عدد الافراد ..! و ان ثبات كمية الاكل هو اللي بيعمل التوازن الطبيعي..!
و فهموا كمان: اننا لما نزود الاكل عشان العدد زاد.. كل اللي بنعمله هو اننا بنزود التعداد ..! و بندخل في دايرة مفرغة…!!!
طيب.. نرجع لقبائل الانسان الأول :
ابتدت القبائل تنقسم.. و تعمر الارض.. و هي عايشة علي نفس النمط.. قطف ثمار و صيد الحيوانات و الاسماك.. و اتحركت من افريقيا .. لآسيا.. و هي ماشية علي شواطئ البحر.. فوصلت لليمن .. و الهند.. و ايران.. و جزر جنوب شرق آسيا.. و بتبعد عن المناطق الباردة في الشمال .. الا في حالات ارتفاع درجات الحرارة بعد العصر الجليدي.. و دخلوا علي اوروبا..
و كانت اسلحتهم كافية للدفاع ضد بعض الحيوانات المفترسة.. و صيد حيوانات كبيرة .. زي الماموث.. و الثدييات الكبري.. زي الجاموس الوحشي.. و عن الاعتداءات الطبيعية من القبائل التانية.. اللي بتحاول تدخل في مناطق نفوذهم.. و اللي كانت ـ لما تلاقيهم مش حا يسمحوا لهم بالتواجد ـ بتفضل انها ترحل و تدور علي مكان تاني يكون فاضي.. !
كل ده .. و هم ماشيين علي نفس القانون.. و مكتفيين بكنف الطبيعة.. و التوازن بين اعدادهم .. و قدرة الارض علي العطاء..
و اتجهت بعض القبائل الآسيوية لمنطقة سيبريا.. و منها عدت مضايق “بيهرنج” لما كانت بتتجمد في الشتا.. و نزلت علي القارة الامريكية الشمالية .. و منها للجنوبية.. و استعمرتها.. و عاشت فيها علي نفس النظام .. لغاية القرن الخامس عشر الميلادي..!
كل ده.. و لسه البشر .. جزء من الطبيعة.. فاهمين شروطها.. و عايشين فيها و عليها.. زي باقي المخلوقات.. يميزهم ذكاءهم.. و يملا ثغرات ضعفهم.. لانهم ابطأ من حيوانات تانية.. و اضعف.. و اقل خفة.. فما كانوش بيستهينوا بيهم.. و بيحترموا قوتهم .. و سرعتهم .. و خفتهم..
و كمان ما بياخدوش من الطبيعة اكتر من اللي محتاجينه.. و يستعملوا كل حاجة في الفرائس اللي يقتلوها.. و في الشجر اللي مضطرين يقطعوه.. و يسيبوا الباقي عشان عارفين انه جزء من الطبيعة الجميلة.. اللي عايشين فيها.. و عايشة فيهم ! فهموا الحياة.. و عرفوا ان الموت جزء منها.. لأنه بيسمح للحياة انها تستمر..
و لما اتكونت عندهم تقاليد.. و حرف..و فهموا المواسم.. و دورات الحياة.. عاشوا بيستمتعوا.. بأكل صحي و لذيذ.. و هواء نقي.. و اشجار مثقلة بالثمار.. و بحار مليانة اسماك .. و فواكه بحر.. و انهار نظيفة.. ميتها نقية .. و متجددة..
و مناظر طبيعية خلابة.. و احساس بالارتباط بالنجوم.. و الشمس .. و الغيوم .. و المطر .. الكون..!
مش هو ده اللي كل واحد مننا.. في قرارة نفسه.. بيتمناه ..؟
مش هي دي .. الجنة..؟
نكمل رحلتنا لاحقا…!
ايه بقى الحكاية | الجزء الأول
قبل ما نكمل.. ارجو ان كلنا نلتزم بشروط الرحلة..!
فيه ناس سألت ليه لما نتناقش ما نقدرش نستشهد بكتب الدين ؟
و الاجابة ببساطة.. لما نتناقش .. ما ينفعش نسوق نصوص.. مجرد النقاش فيها يعتبر نوع من الكفر ..!
و ما ينفعش اننا نتقدم في التفكير .. و نحاول نشوف الأشياء من وجهة نظر اخري .. و احنا متقيدين بوجهة نظر متوارثة .. و محفوظة.. و زاويتها معروفة !
ممكن كمان نشبهها بفريقين من الهواة.. بيتنافسوا في مباراة.. و فريق منهم يحصل علي لاعب محترف و ينزله في الملعب.. هل يبقي من العدل ..؟
طيب .. نستأنف المشوار..
طول فترة انتشار القبائل البشرية علي سطح الكرة الارضية.. كانوا بيكونوا تقاليد و طقوس بيقوموا بيها يوميا.. زي إشعال النار لو كانت انطفت اثناء الليل.. و تحويل الميه من نهر قريب .. او بئر .. او منبع.. للإستخدام اليومي.. و البحث عن فرائس يصطادوها.. و فواكه يجنوها..
و كانت المجموعات اللي بتقوم بالمهام دي.. غالبا بتبقي مكونة من اجيال مختلفة.. يعني حد كبير في السن .. له خبرة في اداء المهمة.. و بيقود المجموعة و يوجهها و ينظم عملها.. و مجموعة شباب مختلفين في الاعمار.. عندهم جَلَدْ و قوة و خفة حركة.. و اطفال من سن المراهقة او اصغر شوية .. بيتعلموا.. و بيكتشفوا دورهم اللي حا يقوموا بيه في المستقبل..!
و بعد فترة.. كان الناس الكبار في السن .. بيعجزوا.. و يتركوا مكانهم للشباب اللي كبروا.. و يبقي دورهم منحصر في النصائح.. و الاستشارة في مستقبل القبيلة و حل اي مشاكل بتقوم بين الافراد .. بعدل و حب.. فكان حكمهم ساري و مقبول.. لأن القبيلة في آخر الأمر مجرد أسرة كبيرة.. و كلهم يقربوا لبعض..!
و بعد كمان شوية.. كانوا العواجيز دول .. بيموتوا.. و يرجعوا للطبيعة سواء بالدفن.. او بالحرق.. او حتي في بعض الاوقات بانهم يتركوا علي قمة جبل .. تاكل جثثهم الطيور الجارحة و الذئاب.. علي حسب تقاليد كل قبيلة..!
و تفضل ذكراهم في قلوب قبيلتهم.. يحكوا حكاياتهم.. و يتذكروا مواقفهم.. و يفتكروا كل الحاجات اللي اتعلموها منهم.. و اراءهم السديدة في مواقف معينة..
و اتحولت قصص الاجداد لأساطير .. و بقت كل قبيلة لها حكاياتها .. و اساطيرها.. و بقي جزء من الحياة اليومية.. هو حَكي الاساطير دي.. و تَذكُّرها..
و طبعا.. كان مؤسس القبيلة.. او مجموعة القبائل المتقاربة.. له معزة خاصة.. و ذكراه دائمة.. و مكانة محفوظة في وسط ناسه..
غير طبعا الابطال .. اللي انقذوا القبيلة في مواقف معينة.. و اللي استحقوا ان ذكراهم تبقي علي لسان الرواة.. حول نار السهر و السمر ..!
و في نفس الوقت.. كانوا البشر.. لأنهم عايشين في الطبيعة.. و بيشربوا من ماء النهر.. و يتدفوا بالنار.. و نور الشمس بينور يومهم .. و نور القمر بينورليلهم.. و يهتدوا في ترحالهم بالنجوم.. و الريح بتحمل لهم الروائح و حبوب اللقاح اللي بتحول الزهور لثمار.. بقت كل العناصر الطبيعية دي .. من ابطال رواياتهم.. و لها مكانة خاصة .. جنب ذكريات الاجداد..
و كانت كمان الحيوانات المنتشرة في منطقتهم.. لها دلالات خاصة.. و بيتعلموا منهم.. فيصطادوا في مجموعات زي الذئب.. و يدوروا علي العسل البري زي الدب.. و يعرفوا مواسم بعض الاسماك من حركة الطيور في السما..
و حتي الفرائس اللي بيصطادوها و يستغلوا كل صغيرة و كبيرة في جسمها.. كانت لها معزة عندهم.. و يحكوا حكاياتها مع كل الباقي اللي ذكرناه..
و مع الوقت تحولت كل القصص و الحكايات الي اساطير .. مجرد ذكرها بيساعدهم في تنظيم حياتهم اليومية.. من خبرات مكتسبة.. و حِكَمْ تخليهم يفضلوا طرق معينة لصناعة الاشياء.. و تخليهم يستمروا في احترام الطبيعة اللي عايشين في كنفها..
و ظهر .. مع مرور الوقت.. الدين !
دين فطري.. داخل في كل مظاهر الحياة.. و نابع من خبراتهم.. و اوقات الرخاء.. و اوقات الشدة.. و بيحافظ علي نمط حياتهم .. و يضمن لهم الاستمرارية..!
و فهم البشر.. لما فهموا نظم الطبيعة.. و تشابه تصرفاتها.. و تشابه اشكالها.. ان فوق كل العناصر دي : الاجداد.. و مظاهر الطبيعة.. و الكواكب و النجوم.. و الحيوانات اللي بتشاركهم الحياة علي الارض.. و هم نفسهم.. فيه روح واحدة.. و احساس واحد.. و نظام واحد.. و قانون واحد..
بعضهم سماه “الروح الاعظم”.. و بعضهم سماه “الكائن الاعلي”.. و بعضهم كمان إدي له إسم خاص.. مستوحي من ثقافتهم.. و شبهوه بجد قديم من اجدادهم.. او بعنصر من عناصر الطبيعة.. و في بعض الاحيان بالأم الحنون..
انما كان المعني دايما واحد : الله..!
و عاشت القبائل البشرية.. في اتزان مع الطبيعة.. لمدة طويلة جدا.. و عمروا اجزاء الارض المختلفة.. و ركبوا البحر عشان ما يواجهوش القبائل المستقرة.. فوصلوا للجزر في وسط المحيطات.. و عاش بعضهم في الغابات.. و بعضهم في وديان و سهول.. و فوق جبال .. و جانب انهار.. و اختلفت مظاهرهم.. و الوان بشرتهم .. و مروا بعصر جليدي اباد منهم كتير .. و غير مسارات هجراتهم.. و علمهم الصراع للبقاء.. و عدوا من الازمة اقوي .. واكثر حكمة.. و اكثر حنكة.. و براعة..
انما عمرهم ما فكروا يكسروا قانون التوازن مع الطبيعة.. او يلجأوا لمحاربتها.. او التخلي عنها..
استغلوا عناصرها بذكاء.. و اتعلموا يتماشوا مع قوانينها.. و يحترموها.. مش بس عشان اديانهم كانوا بيأمروهم بكده.. انما .. لأن الاديان دي نابعة من تجاربهم و فاهمينها كويس.. لأنها مسأله بقاء.. و حياة و فناء.. !
عاوز احكي لكم واقعة صغيرة : ايام ما كنت في امريكا.. قابلت شاب من السكان الاصليين.. الهنود الحمر .. من قبيلة الشيروكي .. كان بيصنع علي ايده اسلحة بيضاء بشكل حرفي جميل.. مطاوي و سكاكين صيد و ما اليه.. و بيبيعهم في ممر في مدينة “پاسادينا” في منطقة تجارية انيقة.. و راصص القطع كلها علي طرابيزة في الممر.. و الناس بتعدي تتفرج.. و اللي عاوز.. يشتري..!
لاحظت في ركن من العرض.. ٣ سكاكين مصنوعة من الحجر.. زي القطع اللي شوفتها في متحف التاريخ الطبيعي.. في صالة العصر الحجري..
و كان السعر اللي عليهم ٧ اضعاف اجمل القطع المصنوعة من الصلب..
فسألته عنهم.. فإبتسم و شرح لي: “علشان الانسان يعمل سكينة من دول.. لازم يتعلم يتحكم في ١٨٠ (مئة و ثمانين) ضربة مختلفة لقطعة الزلط اللي حا يطلع منها السكين.. و لو غلط.. ممكن تتكسر منه زي الزجاج.. انما لو نجح.. عمره ما يحتاج يسن السكينة دي طول عمره.. و القطع اللي في المتاحف .. لازالت حامية لغاية النهارده..!”
فقولت له.. و انا لسه مش مصدق: “يعني .. عاوز تفهمني ان الناس بتوع العصر الحجري.. كانوا بالمهارة دي ..؟”
فرد فورا : “مش بس مهارة.. انما كمان حكمة.. و انسانية.. و حفاظ على الأرض..!
امريكا كانت جنة .. لغاية وصول الرجل الأبيض.. و كنا عايشين مع الطبيعة.. و السكاكين دي .. ولا حاجة.. جنب الحاجات اللي كنا بنصنعها.. و كلها اندثرت دلوقتي..!”
كانت القبائل في المناطق الدافئة.. ساعات تلجأ.. علشان ماتضيعش وقت في البحث عن الخضروات و الحبوب.. انها تزرع شوية خضار.. او فجل و جرجير .. او بعض الحبوب.. زي الذره.. و البقول.. و الشعير.. في ارض مستوية جنب خيام او اكواخ القبيلة.. مش بعيد عن مصدر المية.. و كانوا و هم راحلين عن المنطقة.. يرموا شوية حبوب في مكان جنب النهر .. او عين طبيعية.. و يسيبوها تتكاثر.. لغاية ما يرجعوا بعد كام سنة .. في ترحالهم المستمر..
انما.. كانت عادة غير منتظمة.. لأن التنوع كتير و موجود.. و هم متعودين ياكلوا كل حاجة في الموسم بتاعها.. !
و حصل.. من حوالي ١٣ الف سنة.. ان بعض القبائل في منطقة “ما بين النهرين” او العراق الحالي.. ابتدت تستعين بالزراعة اكتر من العادة.. يمكن لأنهم مروا بمشاكل غذائية.. او ان فرائس الصيد قلت.. فقرروا انهم .. بدل ما يمشوا ورا القانون السائد.. و يرحلوا.. و يروحوا يدوروا علي مكان تاني .. قرروا انهم يستغلوا مياة النهر.. و الوادي المسطح.. و ابدوا يزرعوا بشكل منظم.. عشان يضمنوا مصدر اكل غير الطبيعة..!
طبعا.. ارض خصبة.. خلعوا منها كل النباتات اللي ما تلزمهمش.. و زرعوا اللي هم عاوزينه بس..!
و ابتدت تجيلهم محاصيل اكبر بكتير من اللي كانوا عاوزينه..!
فإبتدوا يخزنوا اللي فاضل.. و يزرعوا اكتر..! و اتعلموا يسمدوا الارض.. و يخزنوا تقاوي.. و فهموا فصول الزراعة..و طرق الري البدائية..
و بعد قرن من الزراعة.. حصل مجموعة حاجات عجيبة.. عمرها ما حصلت قبل كده ..!
اولا.. لأنهم بيزرعوا.. و الزراعة مرتبطة بالأرض.. بطلوا يتحركوا زي الاول .. و استقروا..!
و مع الاستقرار .. بقت الخيام.. و العشش الخفيفة .. ما تنفعهمش.. فبنوا بيوت من الطين.. و بعد شوية .. من الحجر .. و استقروا أكتر كمان..!
انما مش بس كده..
انتوا فاكرين .. في الحلقة اللي فاتت.. حصل ايه للفيران اللي في القفص.. و اكلها كتير.. ؟
بالظبط : عددهم زاد جدا ..
و بدل ما كانوا عايشين في قري صغيرة.. زاد حجم القري فبقت مدن ..
و مع كتر العدد.. و انهم بطلوا يبقوا عيلة واحدة.. ظهرت مشاكل تانية..
منها.. ان تخزين الأكل.. محتاج يتحسب.. و يتوزن.. عشان ماحدش يكال حق حد.. فإخترعوا الحساب.. في الاول بأشياء رمزية .. زي القواقع.. او بذور التمر.. ملضومة في خيط.. و بعدين بعلامات و رموز منقوشة علي بلاطات صغيرة من الطين وهو طري.. و يتساب ينشف..
و دي كانت بداية الكتابة..!
و حملت القبائل اللي كانت لسة بتهاجر .. و تسافر.. اخبار التجربة الجديدة دي .. لقبائل تانية .. في حتت تانية..!
و ظهرت الزراعة المنظمة .. في وادي النيل.. و في شمال الهند.. تقريبا في الفترة دي.. من حوالي ١٢ الف سنة…
و بالرغم من نجاح التجربة.. الا ان قبائل كتيرة.. حتي من المجاورة للمزارعين الجدد.. رفضت انها تعيش بالطريقة دي.. و اعتبرتها خرق لقانون الطبيعة..
و لما شافوا مدن عمالة تكبر .. و الناس اللي فيها بتزيد بشكل غير طبيعي.. و المشاكل اللي ابتدت تنتج عن النمو الغريب في الاعداد .. و التجاور بين ناس ما يقربوش لبعض.. و التناحر علي المحاصيل.. و بداية ظهور طبقات من المُلّاكْ .. و طبقات من العاملين.. بدل ما كانت كل الناس زي بعض… اصر بعضهم علي الحياة بقانون الطبيعة.. في حين ان الباقي ابتدي ينبهر بالنظام الجديد.. و قرر ينضم للمزارعين .. و يترك كنف الطبيعة..
و يخرج من .. الجنة..!
ايه بقى الحكاية | الجزء الثاني
بدأت حضارات المزارعين تنمو بسرعة نسبية.. و ابتدي عددهم يزيد جدا..!
لاحظوا اني اول مرة اتكلم عن “حضارات”.. و هي فعلا كانت كده…
ظهرت طبقات في المجتمع.. و ابتدي التعامل داخل المجتمعات دي .. بين ناس ما يعرفوش بعض اصلا.. فابتدوا في الاول بالمقايدة.. و تبادل السلع.. انت تعمل لي رغيف عيش.. و انا مقابله اعمل لك صندل .. او صندوق.. او زلعة فخار..
انما الاهم من ده كله.. ان الارض .. لأول مرة في التاريخ .. بقي لها “مالك”..!
و بقي لها حدود.. و ما بقتش تسمح لأي حد انه يمر فيها.. و لو مرور الكرام..!
و ابتدت كمان ملكية الأراضي.. تحدد مين الغني .. و مين اللي اغني منه..
و مين الفقير .. و مين اللي له ضَهر.. و مين اللي ينضرب علي بطنه ..!!!
و حس الانسان بالقلق .. لأول مرة في التاريخ كمان…
لأنه مش متأكد ان الري كافي.. و ان الزرع حا ينمو بصورة جيدة..
هل النهر حا يفيض..؟ هل فيضانه حا يكفي الأرض كلها..؟ هل التقاوي اللي زرعتها دي .. كانت كويسة..؟ يعني مش مِسَوِّسة..؟ يعني حا تنمو ؟؟
و ابتدي يبقي فيه نبلاء.. و كبار ملاك.. و حرس بيخدموهم.. و فلاحين بيخدموا الكل.. و حرفيين كل مهمتهم يبنوا القصور و البيوت الكبيرة.. و يصنعوا الاثاث.. و يتفننوا فيه.. و تجار يبيعوا سلع متنوعة و تجار تانيين متخصصين في سلع معينة.. و يتكسبوا من التحكم في اسعار الأكل.. حسب العرض و الطلب.. و اختار النبلاء من بينهم واحد من اغناهم او اكثرهم سطوة و حكمة و دهاء.. و بقي هو الأمير..
و بقي فيه حكومة.. و حراس بيشتغلوا لحسابها.. و لهم الحق في التدخل في شؤون اي حد.. و يحموا الطبقة العليا.. من اي ثورة او تمرد .. يقوم بيه عمال الارض.. بسبب الأجور .. او ظروف العمل..او ظلم اصحاب الارض..!
كل ده.. و الاعداد بتزيد..
و كل ما التعداد بيزيد.. يزود المزارعين الرقعة الزراعية.. فتزيد المحصولات.. فيزيد التعداد اكتر..!
و فقد المزارعين.. بعد اجيال.. الاحساس بميزان الطبيعة اللي حافظ علي توازن البشر و علاقتهم بباقي المخلوقات..
و لانهم خلصوا علي كل فرائس الصيد في المناطق بتاعتهم.. و ما يقدروش يسيبوا الأرض اللي بياكلوا منها.. اضطروا يدوروا علي حيوانات يستأنسوها للأكل..!
وظهرت قطعان من الحيوانات المختلفة في الاول.. انما بعضها كان بيهرب في اول فرصة.. و بعضها بيموت لما تتحدد اقامته.. لغاية ما رسي الامر علي البقر و النعاج و الخنازير.. و بعض الطيور زي البط و الوز..
و بقت الارض الزراعية مسؤولة عن اطعام القطعان دي كمان..
و دخلوا في الحلقة المفرغة.. زيادة الأكل.. و زيادة التعداد…!!!
كل ده كان غير مسبق في تاريخ البشرية.. يعني ٢٨٥ الف سنة تقريبا..!!!
في نفس الوقت.. كانت معظم البشرية لسة عايشة علي النظام الطبيعي.. و القبائل بعدت عن المزارعين “الخارجين عن القانون” دول.. و بتعيش حياتها في الترحال و العودة .. و اعدادها متوازنة مع الطبيعة.. !
و بعد فترة.. ضاقت الارض بالمزارعين و اعدادهم المتزايدة.. و واجهوا مشكلة مصيرية : يا يتوسعوا… يا يجوعوا.. و يندثروا ..!
و كان حلهم الوحيد .. هو انهم يتوسعوا..!
و بقي التوسع الوحيد الممكن .. مش حا ينفع.. الا لو كسروا قانون تاني :
انهم يعتدوا علي اراضي القبائل اللي لسه عايشة بقانون الطبيعة.. ويحتلوها..!
و بعد مناوشات.. و رفض تام من القبائل.. بقي قصاد الزراعيين حل واحد..
حل كان اول مرة يحصل في التاريخ : .. الحرب..!
واستنجدت القبائل ببعض.. بقرايبهم.. و قرايب قرايبهم.. لما شافوا الزراعيين بيهاجموهم.. فجم بعضهم للنجدة.. و آثر بعضهم السلامة و رحلوا..!
و كانت القبائل ساعات بتتعارك علي منطقة نفوذ.. انما مجرد مناوشات.. غالبا بيتعور فيها كام واحد .. و كانت المعركة بتنتهي غالبا بالصلح.. و السماح للقبيلة المغيرة انها تمر في الارض.. و تروح تبحث عن منطقة نفوذ جديدة.. و ينتهي الموضوع..!
انما الصيادين و قاطفي الثمار فوجؤا المرة دي بحاجة غير متوقعة…
حاجة عمرهم ما شافوها قبل كده :
حرب إبادة..!
جم المزارعين .. بجيش شبه نظامي.. مسلح تسليح تقيل..
و هجموا بلا رحمة.. و قتلوا كل اللي وقف قصادهم.. !
و ما نجاش حد من المجزرة.. لا رجل ولا امرأة.. لا كهل ولا طفل..!
و ضاعف المزارعين ارضهم.. و بقي هو ده اسلوبهم في التوسع..!
و كل ما كانوا يعوزوا يزودوا رقعة الأرض الزراعية.. يهجموا علي قبائل الصيادين و يخلصوا عليهم..
لأول مرة في التاريخ الطويل.. سال دم البشر .. علي ايدين البشر ..
قتل الاخ .. اخوه..!
و اتكررت المأساة.. مرة ورا مرة..
و بقت الجيوش من عناصر الحياة في نظام الزراعة..!
و كبرت الحضارات علي حساب القبائل.. اللي كانت نوع العداء ده .. مش في قاموس حياتها ..! فوقعوا فريسة سهلة.. و هاجروا للمناطق اللي ما تصلحش للزراعة.. و بقت حياتها صعبة.. و قلت اعدادها.. و اتغيرت عاداتها.. و ملامحها .. و ثقافتها.. و معتقداتها..!
اما الحضارات الزراعية.. فبدأت تتطور .. و تتعقد حياتها.. و تبقي مُرَكَّبَة..
و لأنها اضطرت تستعمل العنف.. اصيبت بأمراض نفسية.. زي عقد الذنب.. و الكبرياء.. و الشره.. و الازدواجية.. و الطمع..
و ابتدأ الصراع بين الطبقات.. و الحقد .. و الجشع..
فحسوا ان طبيعتهم البشرية بتتغير.. فحاولوا ينظموا حياتهم.. و يحطوا قوانين انسانية.. تحل محل القوانين الفطرية اللي نسيوها..
فلجأوا لحكماء يوضعوا نظام قانوني.. حاولوا فيه انهم يرجعوا للفطرة .. انما في ظروف مختلفة تماما.. و ابتدوا كمان يتمنوا انهم يرجعوا عن فكرة الزراعة.. انما كانت الفاس وقعت في الراس..!
و في وادي النيل.. كانت الطبيعة مختلفة كتير عن المناطق الزراعية التانية…
وادي اخضر.. ضيق نسبيا.. و محاط بصحراوات من الجنبين.. نهايته في الشمال منطقة مستنقعات.. و بعدها البحر.. و في الجنوب جبال صخرية.. بيمر فيها النيل.. و راها بلاد النوبة .. و مجاهل افريقيا..!
فرجعت مصر.. بالرغم من نظامها الزراعي الكامل.. لنوع من التوازن الا ارادي..
فرقعة الزراعة محدودة.. بالرغم من جودتها.. و النيل فيضانه منتظم.. و انتاج القمع و الذرة و الشعير ثابتين.. و امكانيات الرعي و قطعان الاغنام و الابقار متوفرة… و الثروة السمكية موجوده..
فحصل في مصر .. نوع من العودة لقانون الاتزان الطبيعي.. و ثبت تعدادها.. و ما عادوش مضطرين للتوسع الشره العنيف..!
و مع تنظيم المجتمع الزراعي.. ازدهرت ديانات منتظمة.. واتأسست الدولة..برضه لأول مرة في التاريخ… و ظهرت طبقة الكهنة..!
طبعا.. اول حاجة بنفكر فيها لما بنقول كلمة “كهنة”.. هو الشخصيات اللي بتحط نفسها بين الإله و الناس.. عشان تتحكم في مقدرات الأمور ..!
انما الكهنة في مصر .. كانوا حاجة تانية..!
كهنة مصر كانوا دارسين للعلوم الطبيعية.. زي الفلك.. و الرياضيات.. و الطب.. و الهندسة.. و الكيمياء.. و طبعا اللاهوت و الحكمة..!
و كانت مهمتهم.. حيث ان كل الناس بتشتغل.. و بتزرع .. و بتصنع.. و بتبني.. انهم يفكروا.. و يصمموا .. و يداووا.. و يكونوا مستشارين للملك و الحكومة .. و يراعوا مستقبل البلد..
و كان لهم .. علي حسب مركزهم.. و حجم المعبد اللي بيشتغلوا و يدرسوا فيه.. صوت مسموع.. و قرار نافذ.. و دور مهم في اختيار الملك.. و تأثير قوي علي قراراته..
و من اهم معابد مصر كان معبد “اون” في عين شمس الحالية.. و المعبد هنا مش بس مكان صلاة.. انما كمان مدرسة.. و مستشفي.. و مرصد فلكي.. و صوامع تأمل…
معبد “اون” اللي سماه اليونانيين فيما بعد “هليوبوليس” او مدينة الشمس.. كان مدرسة اللاهوت المصرية.. و طبعا اللي عاوز يبحث حا يلاقي عنه معلومات كتير.. في مصادر متنوعة..
و كانت مكتبته بتضم كل اسرار الحكمة المصرية.. سواء كنقوش علي جدرانه.. او في خزائن البرديات.. و من ضمنها تاريخ مفصل عن تاريخ وادي النيل .. و البشرية بشكل عام .. من نظريات الخليقة.. و الديانات المصرية .. و علاقتها بالحياة في وادي النيل ..
و كان الكهنة.. اللي كانوا حاسين بعقدة الذنب.. زيهم زي باقي الناس .. فحرصوا علي تدوين املهم في العوده الي كنف الطبيعة من جديد.. و اغلب الظن (و الدلائل حا تظهر في سياق الحكاية ) ان من ضمن برديات التاريخ.. كانت هناك بردية تحكي حكاية الحياة الاولي في كنف الطبيعة.. و حياة البشر الُأوَلْ في ترحال مستمر.. بالتوازن التام مع مصادر الرزق.. و بعدين ظهور الزراعة.. و الانفجار السكاني اللي حصل معاها.. و الصراع الدموي الرهيب بين الزراعيين و الصيادين.. و مقتل الصيادين علي ايد الزراعيين.. و اضطرار البشر للعمل الدائب المضني للحصول علي الطعام و تأمينه.. حيث انهم خرجوا من كنف الطبيعة…!
و علي عادة المصريين في قص التاريخ .. اتكتبت القصة علي صورة ملحمة .. تحولت فيها شعوب لأفراد بعينهم.. و تحولت امور حدثت علي مدي مئات و آلاف السنين.. الي احداث وقتية..
فمثلا كان تحول بعض البشر من الصيد و الجنيْ الي الزراعة و كسر قانون الطبيعة.. يرمز له بقطف ثمرة محرمة..
و الصراع الدامي بين المزارعين و الصيادين.. الي مقتل اخ صياد علي يد اخوه المزارع.. في لحظة غيرة من رضا الإله الأعلي علي الصياد.. و هكذا..
و حفظت البردية في قدس اقداس المعبد… لا يطلع عليها الا الكهنة من المستوي الرفيع..
و فضلت في الظل .. و إتنست..
في انتظار خروجها للنور مرة اخري ..
في ظروف مختلفة.. تماماً..!
ايه بقى الحكاية | الجزء الثالث
زي ما توقعت.. ناس كتير تركت الرحلة..
انا عارف انها صعبة.. و ساعات مخيفة.. او علي الاقل مقلقة..!
و احب احذر اللي مستمرين.. انها من النقطة دي و جاي .. حا تبقي اصعب كمان.. و حا تتطلب مجهود اكتر.. و تروي في اصدار الاحكام..!
مستعدين..؟ يالا بينا…!
استمرت حضارات المزارعين في النمو.. و توسعت رقعتها.. و ظهرت مدن جديدة .. و ممالك جديدة..
و طول الوقت .. الحرب دايرة علي قبائل الصيادين.. للحصول علي اراضي جديدة.. للزراعة.. اللي كانت اول ما تبتدي تكفي الناس.. يزيد التعداد اكتر.. و تبقي الدول الزراعية محتاجة تتوسع.. تاني !
و لما ابتدت بعض ناس تشكك في جدوي التوسعات دي.. كانت بتظهر نفس نوع “البروباجاندا” اللي دايما نسمعها في اوقات الحرب :
“دول اعداء السلام.. و أعداء التقدم.. و لو سكتنا لهم هم اللي حا يهاجمونا.. و يحطموا بتنا .. و يدمروا محصولاتنا .. و قوت عيالنا..!”
وصولا الي الجمل الشهيرة زي :
“دول حيوانات ضارية اصلا.. مش ناس زينا..!
دول حثالة البشرية.. دول جيوش الشر .. دول ما يستحقوش الحياة..!”
و مع مرور الزمن .. ظهرت ديانات جديدة خاصة بالفكر الزراعي.. حيث الآلهة كلها لها علاقة بالنظام الجديد.. زي الهة الخصوبة .. و الارض.. و آلهة للمواسم الزراعية المختلفة.. و ظهرت مهرجانات و احتفالات كلها مرتبطة بالمواسم دي.. زي حصاد المحاصيل.. و فيضان الانهار.. و نثر البذور..
و ظهرت فلسفات جديدة .. و قوانين جديدة .. كلها مبنية علي فكرة الزراعة و النماء.. و تحديد الملكيات .. و تنظيم الري.. و التحكم في مسارات الترع و المصارف..
و اصبحت آلهة الشر في الديانات دي كلها .. آلهة الصحاري.. و الغابات و الجبال الغير صالحة للزراعة…
و لما اتغيرت الطبيعة في البلاد الزراعية.. و فقدت جمالها الاصلي.. حاول المزارعين تعويض النقص بالجناين.. و العمارة .. و تجميلها من الخارج و الداخل.. و نقلوا من الطبيعة عناصرها.. انما بشكل منظم زي الوحدات الزخرفية.. و الاثاث المستوحي من الزهور .. و الحيوانات.. و البلاطات المزلجة.. الملونة بألوان الورود..
و في نفس الوقت .. ظهرت قيم جديدة.. كلها تمجد العمل ( و العمل الدائب ) و الكفاح من اجل لقمة العيش ـ و هو شيئ ما كانش موجود ايام ما كان الانسان عايش في كنف الطبيعة ـ و طبعا .. لأن الاغنياء ما كانوش مطالبين بالعمل..
ظهرت الأحقاد الطبقية.. و صفات الرياء و المداهنة .. و التقرب من السلطة.. و المؤامرات.. و الثورات ( اللي كانت بتقمع بدون رحمة.. حيث ان الناس كتيرة و عمالين يزيدوا ) و ظهرت كمان العبودية.. و تجارة الرق ..
و انتظم المجتمع الزراعي .. بكل عيوبه.. علي فلسفات مبنية علي فكرة ان الانسان “شرير بطبعه.. و مولود في الخطيئة.. و محتاج للخلاص..”
و حيث ان الجنة ما بقتش علي الارض.. ظهرت افكار ان “الحياة الدنيا.. تجربة.. و ان فيه حياة تانية ابدية.. في جنة تانية.. بس بعد ما يثبت الانسان انه مطاوع للقوانين.. و بيعمل بجهد.. وبيضحي براحته.. و راضي بما تقسمه الآلهة..!!”
و في نفس الوقت.. فضلت قبائل الصيادين القليلة اللي رحلت بعيد عن مناطق الزراعة.. عايشة بنفس نمطها القديم..
و كان سكان المدن ( المبنية حول الزراعة ) و اللي بيشتغلوا في التجارة.. ساعات يزوروا القبائل دي في رحلاتهم.. و يستعجبوا ازاي الناس دي سعيدة و بسيطة.. بالرغم انهم عايشين في خيام او اكواخ.. و بيخدموا نفسهم بنفسهم.. و انهم ما بيشتغلوش كتير .. و ما عندهمش مشاكل.. و لا طبقية .. و لا ظلم..
فكانوا يتهموهم بالكسل.. و عدم الانضباط.. و التسيب..!
و في مصر.. في وادي النيل.. وصل المجتمع الزراعي لقمة النظام..
و لان النيل سخي جدا.. انما الارض الزراعية محدودة.. حصل التوازن اللي اتكلمت عنه في الحلقة اللي فاتت.. و لان الخير موجود.. و نظم التعليم و التفكير متطورة .. فضل في المصريين .. و بالذات الطبقات المتعلمة.. و طبقة الكهنة (العلماء).. جزء قديم من حب الطبيعة.. و احترامها..
و اضافوا في دياناتهم حاجات بتشير الي الازمنة القديمة.. قبل الزراعة..
و مع المهرجانات و الاعياد الزراعية.. كان عندهم مظاهر للإحتفال بطرق الحياة القديمة.. زي الصيد.. و القنص.. و قطف الثمار..
و حتي وصف الجنة اللي بعد الموت و الحساب امام الآلهة.. كان مطابق للطبيعة علي ضفاف النيل..!
طبعا مصر كانت اتوحدت.. و ظهرت الاسرات الملكية.. و الحكومة..
و بني المصريين الاهرام.. حسب تصميمات الكهنة..
و كان علمهم بالفلك و الرياضيات و الهندسة و الكيميا و الطب.. كلها بتربطهم بالكون.. و بالطبيعة..
و بقت الثقافة المصرية.. بالرغم من انتماءها التام للحضارات الزراعية.. لها شخصية خاصة جدا.. تعتبر حلقة الوصل بين الزراعة.. و بين النظام القديم !
و بالرغم من آلهة مصر الرئيسية الكتيرة و دياناتها المتعددة.. اللي مرتبطة بميثولوچيا معقدة.. كانت كل منطقة لها الآلهة الخاصة بها.. زي ما كانت القبائل القديمة لها آلهتها ..
انما مصر كانت بتتميز ان آلهتها لها تخصصات في مناطق الحياة اليومية المختلفة.. زي الخلق و الموت و الحساب.. و الزراعة.. و العلم و الفن و الكتابة.. و المرح و الدعابة.. و الحمل و الولادة..
و كلهم مافيش بينهم تناقض.. لأنهم نابعين من نفس الفكر و نفس الحضارة..!
و انتهت المملكة القديمة مع نهاية الاسرة السادسة سنه ٢١٨٠ ق.م… و انهار حكم الدولة.. و حكمت مصر أسرات ضعيفة لغاية ظهور الدولة الوسطي في ٢٠٤٠ ق.م. مع نهاية الأسرة ١١ و الأسرة ١٢ .. اللي كلنا نعرفها من ايام المدرسة بإسم “العصر الذهبي للفلاح”.. و اللي حكمت لغاية الفترة الانتقالية التانية .. و بعدها بأسرتين.. هجم علي مصر شعب من الرعاة جاي من الجزيرة العربية.. الهكسوس..!
و فضل الهكسوس مستعمرين شمال الوادي لمدة تقريبا ٢٠٠ سنة.. و كان تفوقهم العسكري جاي من الحصان اللي كانوا قدروا يستأنسوه.. و يركبوه بمهارة.. في حين ان المصريين ما كانوش يعرفوا الا الحمار.. طبعا عشان يساعدهم في الزراعة..!
و قدر المصريين يسرقوا من المستعمر بعض الحصنة.. و ولدوها.. و اتمرنوا عليها.. و اخترعوا لها العجلات الحربية.. فقدروا بعد فترة يشنوا غارات علي الهكسوس و قدروا اخيرا يطردوهم.. و يقضوا عليهم..!
و بدأت الاسرة ١٨ الشهيرة.. بداية عسكرية..!
و بالرغم من انها تميزت بتقدم علمي.. و معماري.. و تجاري.. و ادبي..
الا ان الجيش كان بقي من اهم مؤسسات الدولة.. و اهتم ملوك الأسرة بتجهيزه.. و تدريبه.. و بقي جيش نظامي .. مش مجرد متطوعين زي ما كان قبل دخول الهكسوس..!
و ظهر علي الافق شعب مقاتل تاني.. “الحيثيين”.. من جنوب الاناضول ..
( كان فيه من دول كتير بقي.. لأن الحضارات الزراعية .. حتي الصغيرة.. غنية.. و تطمع اي حد انه يحاول يستعمرها.. و يغتني علي قفاها.. انما لما كانت بتبقي حضارات كبيرة زي مصر.. كان يلزم لها ناس قوية و جيوشها منظمة..! )
و ابتدوا يحتلوا الشام.. و فينيقيا.. و عينهم ـ طبعا ـ علي وادي النيل ..!
و في عصر “تحتمس التالت”.. قدرت الجيوش المصرية تهزمهم في معركة “مجيدو” اللي تذكرها التاريخ علي انها اول معركة كبري.. بين جيوش نظامية ضخمة..!
( بالمناسبة.. اعطنا في اللغات الغربية كلمة “ارماجيدون” Armagedon اللي بترمز للمعركة الأخيرة بين الخير و الشر..)
و قدر تحتمس انه يحتل جزء كبير من الشام.. و كان قبلها احتل جزء من النوبة.. و من ليبيا.. و ضمهم لمصر..!
فتحولت مصر.. لأول مرة في تاريخها.. لإمبراطورية..!
و فتحت ابوابها للشعوب اللي واقعة تحت سيطرتها.. فدخلوا يتعاملوا مع المصريين.. و يتاجروا معاهم.. و يتعلموا في مدارسهم.. و يتعالجوا تحت ايادي اطباءهم.. او يستقروا في مصر .. و يعيشوا فيها..!
طبعا.. جابوا معاهم لغاتهم.. و ملابسهم.. و عاداتهم.. انما الأهم : آلهتهم ..!
و بقت زيطة بقي..!
دي آلهة مش من النظام المصري.. لأن بعضها شعوب رعوية زي مملكة “ميتاني” و الممالك النوبية.. و بعضها شعوب متاجرة زي الفينيقيين.. و شعوب البحر.. عاداتهم مختلفة.. و قيمهم مختلفة.. و فلسفاتهم مختلفة..!
وحتي الشعوب الزراعية.. كانت من النوع اللي بيعتمد علي الامطار.. يعني آلهة الريح و السحاب و المطر بتوعهم .. غير مألوفين في مصر..!
و لما طلع علي العرش “تحتمس الرابع” حفيد “تحتمس التالت”.. كانت المشاكل الاجتماعية و الامنية.. و السياسية.. الناتجة عن كمية الآلهة الضخمة في مصر بقت غير محتملة..
فراح الملك يقابل كهنة معبد “اون”(هليوبوليس).. اللي احنا عارفين انه مدرسة اللاهوت المصري.. و شرح لهم المشكلة.. و طلب منهم انهم يلاقوا حل.. يخلي السيطرة علي الامبراطورية.. اقل تعقيدا..!
و بعد كام سنة من الدراسة.. رجع كهنة “اون” للملك.. و عرضوا عليه فكرتهم..!
و الفكرة .. ببساطة.. نظرية مش جديدة.. و لها جذور من الدولة القديمة.. انما الإضافة اللي بيقترحوها هي.. إن كل الآلهة دي .. بتاعة مصر و الأجنبية.. أوجه مختلفة .. لإله واحد.. مجهول الملامح.. و مختفي ورا قرص الشمس..و اسمه “آتون”.. و إن ممثله علي الأرض و المتكلم بإسمه.. هو ملك مصر..!
و بكده.. تبقي كل مقاليد السلطة.. السياسية و الدينية.. في ايد “فرعون”..!
انما الفكرة فيها مشكلة واحدة..!
و هي ان الشعب.. و الشعوب الأجنبية.. مش حا يقتنعوا بسهولة.. و لازم يتم دمج الآلهة.. ببطئ.. علي مدي اجيال كثيرة..
انما ممكن دي .. تبقي ديانة القصر الملكي لوحده.. و تفضل سرّية.. لغاية ما ييجي وقت تطبيقها..!
فوافق تحتمس الرابع علي الفكرة.. و ادخل ديانة آتون في القصر..!
و كان إبنه.. امنحتب التالت.. شاب مشترك مع ابوه في الحكم.. متفهم للموضوع و عنده استعداد ينتظر لغاية ما يتم دمج الآلهة تدريجيا..!
و طلع أمنحتب التالت علي العرش بعد وفاة ابوه.. و اتجوز فتاة من اسرة فقيرة.. و رفعها جنبة كملكة .. و زوجة اولي.. الملكة “تي”!
و اخيرا.. بعد سنين من المكايد .. لأن الزوجات التانين .. و منهم اميرة من “ميتاني”.. سبقوها في الخلفة.. حملت “تي” و جابت ولد (تحتمس) انما مات في شبابه.. و زادت المؤامرات في البلاط.. و ما هديتش الا لما ولدت تي ابن تاني اتسمي امنحتب علي اسم ابوه..!
و ربت “تي” ابنها.. علي ديانة القصر.. و زي كل اللي شبعوا بعد جوع.. أنشئته علي حب السلطة.. و السلطة المطلقة..!!
فبمجرد ما طلع علي العرش بإسم “امنحتب الرابع”.. اعلن انه عاوز يطبق تعاليم ديانة “آتون” المتسلطة..!
و طبعا حصل قلق بين كل الكهنة.. و رجال الدولة.. لأن الشعب ما كانش مستعد لتغيير معتقداته بين يوم وليلة.. غير ان المفكرين قلقوا جدا من كم السلطة المطلقة .. اللي الدين ده كان حا يعطيها لرجل واحد..!
فغضب فرعون و رفض التنازل عن السلطة المطلقة اللي كان بيحلم بيها.. و ترك طيبة.. و راح انشأ مدينة جديدة عند المنيا.. و اعلن انه “آتون” هو الإله الوحيد.. و غير اسمه الي “إخناتون” (الذي يخدم آتون ) و ابتدي يعادي كل الكهنة.. و كل اللي ما عندوش استعداد يتبعه..!
و فعلا.. حصل زي ما كانوا الكهنة متوقعين.. و اشتعلت حرب اهلية في مصر.. و اضطر الجيش انه يسيب مكانه علي الحدود .. وفي مناطق النفوذ المصرية في الخارج.. و يلتفت للمشاكل الدخلية.. و ضعفت المحاصيل .. و خسرت مصر كل ممتلكاتها الخارجية.. و طبعا .. الحثيين شدوا حيلهم.. و شموا ضعف مصر .. و استعدوا للهجوم عليها..!
و للرحلة.. بقية !
ايه بقى الحكاية | الجزء الرابع
استأذنكم.. في شوية ملحوظات قبل ما نكمل:
اولا.. اسلوبي في الكتابة.. بالعامية.. يمكن يخدع بعض ناس.. و يتهيأ لهم .. اني باحكي حدوتة .. من دماغي كده .. و خلاص..!
في الحقيقة .. كل معلومة باحطها لها أسانيد تاريخية و علمية.. يمكن ما تكونش موجودة في كتب متداولة قوي.. انما بشيئ من البحث… ممكن ـ اللي عاوز ـ يتحقق منها..! و ده هو المقصود من الرحلة : اننا ندور و نلاقي.. و نفهم..! مش اني اثبت وجهة نظري.. و اطلع الباقي غلطان..!!
ثانيا.. من النقطة دي.. الرحلة مش “لذوي القلوب الضعيفة”..
فلو فعلا حد ما عندوش استعداد يقرا كلام صعب علي النفس انها تقبله.. ارجوه انه يمتنع.. و ما يصعبهاش علي نفسه.. و علي الباقيين.. لأنها مش ناقصة..!
ثالثا.. علشان ده مش كتاب.. و بنحاول نشوف في الرحلة الصورة الكبيرة.. و من بعيد.. فيه بعض احداث ما اقدرش ادخل في تفاصيلها..
فأرجو ان اللي محتاج تفاصيل.. و استهوته فترة تاريخية عاوز يعرف تفاصيلها.. يدور عليها بنفسه.. و هي غالبا كلها موجودة علي النت.. صحيح يمكن مش بنفس وجهة النظر..!
رابعا.. فيه سؤال مهم لازم نسأله عشان نفهم الأجزاء الأربعة السابقة.. (المقدمة و التلات اجزاء التالية ) و هو :
“ليه.. لما البشرية موجودة علي الكوكب ده من ٣٠٠ الف سنة.. بنبتدي نحكي التاريخ من ١٠ الاف سنة بس.. يعني اقل من ٤٪ من رحلة البشر.. و اللي قبل كده ده كله.. بنسميه “ما قبل التاريخ”..؟ بالرغم ان عندنا معلومات كتير قوي عنه..؟ الا بقي لو عاوزين.. و قاصدين.. ننساه ؟”
ارجوكم.. فكروا.. بشكل علمي.. و محايد.. و بعقل متفتح.. و ضمير صاحي !
و تعالوا بقي.. نكمل المشوار…
حس رجال الدولة في مصر.. الكهنة.. و المفكرين.. و المسؤولين عن الحكومة .. ان البلد بتمر بأزمة طاحنة.. لأن العدو المرة دي .. ما كانش من الخارج بس.. انما الحرب الأهلية اللي بتضعف البلد من جوه..
و كان قائد الجيوش “حورمحب” من اكتر الناس المهمومة بالموضوع ده.. لانه مضطر يبعت قوات تفض الاشتباكات في الشوارع.. و هو عارف ان الحيثيين قربوا علي الأبواب.. و بيستعدوا للإستيلاء علي مصر .. في لحظة ضعفها..!
و سواء علشان صحته مش كويسة.. او لأنه تعرض لمؤامرة اغتيال بالسم.. او انه فقد الأمل نتيجة لخيانات زوجته المحبوبة “نفرتيتي”.. مات اخناتون بعد ١٦ سنة من الحكم فقط..!
و تولي الحكم بعده ابنه الأكبر “سمنخ كا رع” لمدة سنتين بس.. كانوا استمرار لمشاكل اخناتون.. انما علي اهدي شوية.. و بالرغم انه كان بيحضر للرجوع في نظام اخناتون المتشدد.. الا انه توفي قبل ما يغير اي حاجة..!
و فورا.. اتنصب ابن اخناتون الصغير علي العرش.. في طيبة.. علي ايد الكهنة و رجال الدولة.. و حورمحب..
و غير اسمه من “توت عنخ آتون” لـ “توت عنخ آمون” .. و رجع الديانات القديمة..
و هُدّمَت معابد اخناتون.. و استعملت احجارها كأساس لمعابد تانية.. و اتمسحت ذاكرته من سجلات مصر..
و قدر حورمحب.. بعد عمليات التنضيف.. في ردع الحيثيين و استعادة بعض ممتلكات مصر الخارجية.. و عادت الحياة لمجاريها في وادي النيل..
و بعد وفاة “توت عنخ آمون” صعد علي العرش كبير الكهنة العجوز”آي”.. و بعده تولي الحكم “حورمحب”.. و انهي الأسرة ١٨ بعد ما سلم وزيره.. و صديقه.. رمسيس الاول مقاليد الحكم.. و انشأ الوزير المسن الأسرة ١٩..!
طيب..
الفترة اللي تهمنا هنا.. هي فترة الغليان اللي تلت مباشرة موت اخناتون…
كان فيه امير (ممكن نسميه تحتمس .. حيث ان الاسم كان منتشر في الاسرة ١٨ ) .. من العيلة المالكة.. معجب جدا برغبة اخناتون في تطبيق نظرية التوحيد.. و السلطة المطلقة الجبارة اللي حا تنتج عنها..
فلما مات اخناتون.. و اندثرت كل الاحلام في تطبيق النظرية.. و حس ان الحكم راجع تاني .. بشكل او بآخر .. للكهنة و الطبقات المثقفة.. قرر انه يسيب البلد و يروح يطبق النظرية في حته تانية..!
انما طبعا.. امير مصري.. بحكم مركزه كاهن.. و قائد جيش.. مش حا يرحل لوحده.. و كمان مش ضامن انه يلاقي شعب.. في المكان اللي حا يوصل له.. حا يسمع كلامه.. و يمشي وراه..!
فعمل حاجة تانية .. خالص..!
ايام الهكسوس.. في فترة الـ ٢٠٠ سنة اللي استعمروا فيها شمال الوادي.. دخلت بعض القبائل الرعوية السامية .. اللي تقرب لهم.. و استقروا في الوادي..
وادي اخضر.. و ميه صافية.. و اماكن كتير للقطعان بتوعهم.. فزادوا علي مدي عشر اجيال ..
و لما انطردت جيوش الهكسوس.. فضلوا قاعدين.. لانهم مش مضايقين حد.. و تعاملوا مع المصريين.. يبيعوا لهم غنم.. و يضربوا لهم طوب نَيْ لبناء البيوت و الأجران.. و يشتروا منهم حبوب .. طبعا المصريين كانوا بيعاملوهم من فوق.. كمواطنين من الدرجة التانية.. و مش قادرين ينسولهم انهم دخلوا ايام الهكسوس.. و قعدوا من غير “احم و لا دستور”.. انما حيث انهم مش مؤذيين.. سابوهم في حالهم.. يعبدوا آلهتم الرعوية.. و يخدموا في المهام البسيطة..!
فإتصل بيهم الأمير “تحتمس” عن طريق واحد من شيوخهم كان يعرفه..
وعرض عليهم الآتي :
“انا.. امير من الأسرة المالكة.. إختارتكم عشان اخليكم احسن من المصريين..
و اوعدكم بأرض .. لبن و عسل.. انما بشرط انكم تعبدوا “آتون” الإله الواحد.. و تتطاهروا.. وتسيبوا مصر .. ارض الرذائل.. و تتبعوني..!”
و بعد اخد و عطا.. وافقت قبائل “الحابيرو” ( زي ما كانوا المصريين بيسموهم ) علي ترك مصر .. ورا الامير.. اللي خرج بعيلته و زوجاته.. والكهنة اللي بيرأسهم و الكتبه بتوعه.. بكل بردياته الخاصه.. اللي يقدروا يشيلوها.. و خدمه من المصريين و حراسه و ظباطه و جنوده.. و ده في فترة التسيب ايام حكم “سمنخ كا رع”.. و اتجهوا من خلال سيناء.. لمنطقة من المناطق اللي فقدتها مصر في الهوجة بتاعت إخناتون..!
و في سيناء.. اصر الامير تحتمس.. ان القبائل تبطل تذكر آلهتهم الرعوية.. و تعبد آتون فقط دون غيره.. و تلتزم بشروط ديانته و وصاياه.. و تعطي الأمير السلطة المطلقة اللي كان عاوزها..
و ردع اكثر من محاولة لرجوعهم للآلهة الرعوية.. فضاقوا بيه و ثاروا عليه.. واستغلوا فرصة..
و قتلوه !
و بمجرد ما مات الأمير.. ادركوا انهم “سَوَّحُوا” نفسهم !
يعني.. العقد اللي كان بينهم.. انهم يلاقوا بلد تانية.. و يبقوا احسن من المصريين.. اتفسخ.. بموت الطرف الاول..!
و كمان.. كانوا في صحراء.. و محتاجين ياكلوا و يشربوا..
و كمان العودة مستحيلة..
و الوحيدين اللي ممكن يطلعوهم من المأزق ده.. هو الكهنة و الكتبه و الجنود من قبيلة الأمير.. لأنهم يعرفوا طرق سيناء.. و يعرفوا يلاقوا مناطق الرعي.. و آبار الميه.. (كل دي كانت معلومات عسكرية مدونة..! )
فعرضوا عليهم انهم يقودوهم.. و قدموا لهم فروض الطاعة.. و طلبوا منهم يتساهلوا شوية في موضوع عبادة آتون.. مقابل انهم يعلموهم و يفهموهم بالراحة.. و من غير تشدد..
و وافق الكهنة و الكتبه.. للظروف الغير عادية.. و كمان لأنهم ـ من هنا و رايح ـ حايبقوا اعيان القبائل دي..!
و فعلا.. عدوا سيناء.. و وصلوا ارض كنعان.. تحت قيادة الكتبه و الظباط.. و لقوا فيها شعوب مسالمة .. بعضها رعوية .. و بعضها صيادين و قاطفي ثمار بيستعينوا بشوية زراعة..
و هنا.. التفتوا لأعيانهم من الكهنة و الكتبه و الظباط.. فأمروهم بالحرب.. و تدمير كل القبائل اللي تقابلهم.. بإسم آتون.. الإله الواحد..
و قدروا “الحابيرو” يعملوا لنفسهم مملكة في المنطقة.. و سموا نفسهم علي اسم واحد من أجدادهم ( علي طريقة النظام القديم ) .. “اسرائيل”..!
و هنا .. حصلت مجموعة حاجات ..
بقت مملكة إسرائيل ما تقدرش تخطي خطوة.. من غير ما تلجأ للطبقة الحاكمة .. اللي بقت مهمتها التشريع و سن القوانين.. و تعليم الدين.. و الصلاة.. واختيار الملك.. و اتخاذ قرارات الحرب و السلام.. بناء علي ثقافتهم الزراعية و ديانتهم التوحيدية الصارمة..!
و ابتدوا يكتبوا قصة الخروج.. من وجهة نظر الحابيرو (العبريين ) فشالوا اسم الإله تحوت.. من اسم تحتمس.. لنفي هويته المصرية.. فبقي اسمه “موس”..
( الإسم الاصلي “تحوت ـ مس” معناه : تحوت [وهبني] ابن )
واعطوا للقصة جو من الملحمة البطولية.. بما فيها شق البحر .. و غرق فرعون.. و التيه في سيناء.. اللي كلها حاجات ما لهاش اي آثار تاريخية.. و ما اتلاقاش في سيناء اي اثر.. و لا شقفة فخار .. و لا راس حربة.. و لا حتي عضمة.. تدل علي وجود شعب كامل لمدة ٤٠ سنة ..!
و ابتدوا يوضعوا قوانين.. اغلبها مستوحاة من القوانين الزراعية المصرية.. لشعب اصلا من الرعاة..
و استعملوا نصوص صلاوات اخناتون .. وعلموها لشعب اسرائيل..
فلو قارننا مثلا المزمور ١٠٤ من مزامير الملك داوود.. نلاقيه نسخة طبق الاصل لنشيد إخناتون اللي بيمجد فيه الإله “آتون”..
و تحول اسم إله إسرائيل الرعوي “يهوا”.. الي “آدوناي”.. و هو اقرب لآتون..
و اتحول الحابيرو الي انصاف زراعيين جنب شغلهم الأساسي كرعاة.. و خلقوا مجتمع غير متوازن .. انما قدروا يستمروا لأنهم كانوا كلهم عندهم سمة مشتركة: عقدة الذنب من مقتل الراجل اللي اختارهم.. و اعطي لهم ديانتهم .. و قوانينهم.. و ادي لهم فرصة يبقي عندهم ارض.. و مملكة ..!
و اتعرضت المملكة الصغيرة .. لحملات تأديبية من الفرعون “مرنبتاح” ( ابن رمسيس التاني ـ اسرة ١٩ ) لما لقاهم عاملين زيطة في المنطقة.. و دي كانتاول مرة يذكر فيها اسم “اسرائيل” في التاريخ.. علي لوحة حروب مرنبتاح..!
انما الكارثة الكبري حصلت علي ايد حضارة زراعية تانية.. الحضارة البابلية..!
في حوالي سنة ٦٠٠ قبل الميلاد.. يعني بعد انقضاء تقريبا ٨٠٠ سنة من خروج الحابيرو من مصر.. كانوا البابليين تحولوا للقوة العظمي في المنطقة.. و في فترات غزواتهم علي مصر .. قرروا يأثروا الشعب العبري و ياخدوه يعمل بالسخرة في بابل.. و ما انتهتش المأساة.. الا لما اتجوز ملك بابل ببنت من العبريين.. فأثرت علي الملك.. و سابهم يرجعوا كنعان..!
و بمجرد ما رجعوا من بابل.. اعادوا بناء المعبد القديم المتهدم.. و انشغلوا بوضع الصياغة الشبه نهائية لكتاب التوراه.. بكتبه الخمسة.. تحت رعاية احفاد كهنة و كتبة موسي..
و هنا حصلت الكذبة الكبري..!
في وسط برديات الأمير “تحتمس” ـ او موسي ـ القديمة .. كانت نسخة من البردية اللي اتكلمنا عنها في نهاية الحلقة التانية.. و اللي بتتكلم علي خروج المزارعين من الجنة.. و قتل الأخ لأخوه..
انما اللي بيقروا الكلام ده.. ناس تانية خالص..
ناس بقي لهم اكتر من ٨٠٠ سنة سايبين مصر.. و بيقروا الهيروغليفي بالعافية.. ناهيك عن فهم الأسطورة.. و معانيها الخفية.. و اصل حكايتها..!
فطبعا.. بمنطق الزراعيين.. و الآتونيين المتشددين.. و العبريين المتعجرفين…
اعادوا صياغة القصة .. و قلبوا معانيها.. و خلوا الانسان الاول يكون مكتوب له الخروج من الجنة..و الاخ يقتل اخوه .. لمجرد الغيرة.. و كمان حولوا اي حد مهم في الحكاية لواحد من اجدادهم.. و نفوا صلتهم تماما بمصر .. الا في اطار انهم كانوا عبيد فيها ( زي ما كان لسه حاصل لهم في بابل ).. و غضب إلاههم علي فرعون.. و كسر شوكته.. و اخترعوا شخصيات مجنحة زي اللي كانوا بيشوفوها في رسوم بابل الميثولوچية.. و في معابد مصر اللي بترمز للروح الانسانية.. و دخلوها في ديانة اخناتون تحت اسم الملائكة ..!
و حولوا “آدوناي” للإله الأزلي.. و اعطوه صفات بشرية .. زي الغيرة.. و الغضب.. و المحاباة لشعب بعينه..
و خلوه كمان.. يهديهم ارض كنعان هدية لا ترد .. عشان يضمنوا انها تفضل بتاعتهم..
الي الأبد ..!
و في سفر الخروج.. استعانوا بأسطورة بابلية قديمة.. ( عن شاب من عيلة فقيرة قدر يقتل ملك و ياخد العرش.. و ادعي انه ابن الملك.. و ان ابوه اطلقه و هو رضيع في سَبَتْ علي النهر.. و التقطته عيلة فقيرة.. و لما كبر.. عرف اصله.. و استرد عرش ابوه..) فعكسوها.. لمجرد انهم يثبتوا ان موسي مش مصري.. و انه واحد منهم..!
و في نفس الوقت.. كانت الحروب ابتدت تقوم بين الدول الزراعية الكبيرة..
و إحتُلَّت مصر.. و اتحررت اكتر من مرة.. و انهارت حضارتها اخيرا.. و بقت يونانية.. و اتنست الهيروغليفيات.. و بقي ما حدش يعرف حاجة عن فراعنتها الكبار.. ناهيك عن اخناتون .. الفرعون الملعون..!
و ظهرت قوة جديدة في العالم.. كانت حا تلعب دور رهيب في تاريخ البشرية.. و محو ذاكرة الإنسان .. مرة كمان .. بشكل اكثر فاعلية…
الإمبراطورية الرومانية..!
لسه معايا.. و الا تعبتوا ..؟
ايه بقى الحكاية | استراحة الجزء الرابع
حدوتة الطوفان.. عشان نتسلي الراحة..!
اولا.. عاوزين نبص علي خريطة تضم شمال افريقيا.. و اوروبا.. و تركيا .. و منطقة البحر الاسود.. عشان بس نعرف نحكي.. و نتابع..!
لما اتكونت القارات.. كان فيه بين شمال افريقيا و سواحل أوروبا.. منخفض عظيم..! زي منخفض القطارة اللي عندنا كده.. بس اكبر كتير..
طبعا كان مليان غابات.. و سهول .. و انهار.. و بحيرة كبيرة في قاعه.. و بعض الجبال في غربه..
و كان فيه سلسلة جبال كبيرة و هضاب قاطعاه بالعرض في نصه.. و منطقة جبال تانية في شرق المنخفض ده.. خلفها و في شمالها منخفض تاني ضخم..
و كانت رحلات قطعان الحيوانات الافريقية.. زي الفيلة.. و الزراف.. و الجاموس الوحشي.. بتعدي المنخفض ده في الربيع.. و علي ما ييجي الصيف.. تكون وصلت لحوافه الشمالية.. حيث المناخ اقل حرارة.. و المراعي موجوده..
و طبعا .. كانت بعض الحيوانات آكلة اللحوم.. يا اما ساكنة في المنخفض.. يا اما بتهاجر مع القطعان عشان تتغذي عليها.. يا اما كانت ساكنة في الشمال .. و بتستني القطعان لما تجيلها كل سنة..!
و لما ساحت الثلوج في العصر الجليدي التاني من حوالي ٥ مليون سنة.. قبل ظهور الانسان.. حصل في نفس الوقت تحركات في الكتل الارضية.. و زلازل.. ادت لإن المحيط الأطلنطي.. اللي كان ارتفع فيه منسوب المياة فيه جدا .. نظرا للثلوج اللي ساحت.. دخل علي المنخفض ده.. و غرقه..!
و اتحولت مجموعة الجبال والهضاب اللي في النص.. بالعرض.. لشبه الجزيرة الايطالية.. و البركان اللي في جنوبها لجزيرة صقلية..
اما مجموعة الجبال اللي في الشرق.. فبقت الجزر اليونانية.. انما بعضها قدر يحوش المية من انها تدخل علي المنخفض اللي وراها .. في الشمال..!
و انقطع طريق العودة لقطعان من الزراف .. و الفيلة.. و فضلوا في اوروبا..
اللي منهم قدر يتكيف مع الطبيعة الجديدة.. عاش في اوروبا.. و الباقي مات علي الضفاف الجنوبية و هو بيبص بحسرة ناحية القارة الافريقية.. اللي عمره ما حا يشوفها تاني..!
و علي عادة الفيلة.. دورت لها مغارات تقدر تموت فيها.. و هناك ماتت .. و اتحللت .. و مافضلش منها الا هياكلها العظمية الجبارة.. اللي شبه هيكل الانسان العظمي.. بس عل كبير قوي..!
و فضل الحال علي ما هو عليه.. لمدة ملايين السنين..
لغاية ما ظهر الانسان.. و اتطور .. و خرج من افريقيا في قبائل.. و ابتدي يتحرك علي حافة البحار ناحية الاراضي الجديدة..!
لغاية ما وصل للأناضول.. و عداه.. فلقي في شماله منخفض ضخم.. في قاعه سهل عظيم.. مليان حيوانات.. وشجر.. و حواليه جبال شامخة .. فابتدوا يعيشوا فيه.. و يمارسوا حياتهم بشكل طبيعي..!
و عاشت قبائل الصيادين و قاطفي الثمار في المنخفض.. او علي الجبال و الهضاب اللي حواليه .. او في وديان منعزلة فيه.. الصيد كتير.. و الرطوبة عالية فالشجر بينمو بغزارة.. و بيجيب ثمار كتير.. و كله تمام..
انما للأسف.. من حوالي ١٦ الف سنة.. حصل تاني مجموعة زالازل.. و ارتفاعات في منسوب مية البحر المتوسط.. خلت المياة تنصب في المنخفض ده..
و طبعا قتلت كل اللي كانوا عايشين في قاعه.. انما قدرت بعض القبائل اللي عايشة علي التلال و الجبال اللي حواليه انها تنفد بجلدها.. و طبعا كان منظر مهيب.. و ظروف غير عادية.. فإتحفر في ذاكرتهم .. و بقي جزء من حكاياتهم .. و اساطيرهم.. اللي حملوها معاهم في ترحالهم في كل اتجاه..!
و رجعت بعض القبائل.. عن طريق جنوب الأناضول .. لمنطقة الشام.. و منها لأفريقيا عن طريق مصر..!
و بقت حكاية الطوفان .. من الحكايات المهمة في كل الديانات..
لغاية فترة كتابة سفر التكوين .. علي ايد حاخامت اليهود العبريين .. بعد رجوعهم من الاسر البابلي..!
و زي ما هي عادتهم.. تخيلوا حكاية نوح .. و انقاذه للمملكة الحيوانية بكاملها.. و طبعا .. طلعوه واحد من اجدادهم..!
انما حكاية الطوفان.. الأول.. بتاع البحر المتوسط.. مش التاني ده بتاع نوح.. تسببت في نوع غير متوقع من الميثولوچيا..!
ظهرت الزراعة في اليونان .. من حوالي ٩٠٠٠ سنة.. يعني بعد بلاد ما بين النهرين بحوالي ٢٠٠٠ سنة.
و لما اقتحم الميسينيين ( اجداد الاغريق الحاليين ) اليونان .. و استعمروها حوالي ٣٠٠٠ الي ٢٥٠٠ ق.م. كانت الزراعة موجودة.. فازدهروا بسرعة.. و ابتدوا يكوِّنوا دياناتهم.. و معاها الميثولوچيا و الاساطير الخاصة بها..
فحكي لهم السكان الأصليين.. علي مغارات كبيرة .. علي شواطئ البحر .. فيها هياكل عظمية ضخمة .. فراحوا زاروها.. و اكتشفوا فعلا هياكل عظمية تشبه الهيكل العظمي بتاع الانسان… بجمجمة جبارة.. فيها خورم واحد في النص.. تقريبا مكان تجويفات العيون عند الانسان..!
طبعا.. الميسينيين عمرهم ما شافوا فيل.. و ما يعرفوش حكاية الزلومة دي..
فتخيلوا ان دي عمالقة… بعين واحدة.. Cyclops و دخّلوهم فورا في قصصهم و اساطيرهم.. و اخترعوا لهم حكايات..
لغاية مقابلة العمالقة دي مع “اوديسيوس” في المغامرات اللي بعد حرب طروادة..!
بالمناسبة.. جزيرة كريت فيها كهوف من دي .. و هياكل فيلة .. و زرافات افريقية…
و بيعملوا شغل سياحة جامد جداً بالموضوع ده..!
اراكم لاحقا.. في الحلقة الخامسة…!
ايه بقى الحكاية | الجزء الخامس
في تقريبا نفس الوقت اللي كانوا حاخامات اليهود بيكتبوا نصوص الديانة الجديدة.. بعد رجوعهم من الأسر البابلي..
و في عز بدايات الحروب بين الحضارات الزراعية الكبري اللي كانت في توسع مستمر.. بعد ما خلصوا علي الصيادين و قاطفي الثمار.. و حولوهم لمجموعات مهمشة.. او أجبروهم علي الهجرة لأماكن نائية..
ظهرت فكرة جديدة.. اكثر شراسة.. بين المجموعات البشرية..
فكرة الممالك العسكرية.. اللي بتحصل علي قوتها مش بإنها تصتاد.. او تزرع.. انما بإنها تشن حروب علي المجموعات المستقرة.. و تعتدي عليها.. و تسخرها لخدمتها..!
طبعا.. الفكرة دي كان لها سوابق..
زي الهكسوس الرعويين اللي تحولوا لغزاة .. و الحيثيين اللي كانوا عايشين في الاناضول.. و اللي تحولوا من الزراعة الي الحرب لانهم فقدوا القدرة علي التوسع.. نظرا لانهم كانوا مزنوقين في شبه جزيرة.. حدودها مع بابل من ناحية.. و علي مناطق النفوذ المصري في الشام و فينيقيا ..
انما.. بمجرد ما كانوا بيتهزموا.. او يضطروا يعيشوا من غير قتال.. ( زي ما حصل للحيثيين لما اجبرهم “رمسيس التاني” انهم يمضوا اتفاقية سلام في اواخر ملكه ) كانوا بيندثروا.. و يختفوا كقوة عسكرية.. و تنضم اراضيهم للحضارات المجاورة..!
انما.. طلع من مملكة “مقدونيا” الصغيرة – نسبيا – في اليونان.. قائد عبقري.. قدر في خلال سنوات قليلة.. انه يعمل امبراطورية واسعة جدا.. بجيش نسبيا محدود انما منضبط و متمرن كويس.. اجتاح مصر .. و الشرق الاوسط.. و هزم فارس.. و عدي افغانستان.. و وصل لشمال الهند..!
“الاسكندر الاكبر”..!
طبعا.. انهارت امبراطوريته بمجرد وفاته.. انما.. اتقاسم قواد جيشه الممالك اللي كانوا اجتاحوها..
و كانت مصر من نصيب قائد اسمه “بطليموس”.. فإستقر فيها.. و انشأ اسرة حكمت مصر ٣٠٠ سنة.. و كمل بناء مدينة الأسكندرية.. و دخلت مصر في فترتها الهلينستية..!
و مراجع الفترة دي متوفرة جدا.. و يبقي جميل لو نقرا عنها..!
انما تجربة الاسكندر المقدوني كانت مجرد مقدمة للي كان جاي ..!
ظهرت في سنه ٧٠٠ ق.م. مملكة زراعية جديدة في شبه الجزيرة الايطالية.. و قاتلت قبائل الصيادين الاصلية.. و انشأت مدينة “روما”..!
و بعد شوية.. مع التأثير الفكري الديمقراطي لليونان… تحولت روما..لجمهورية ..
طبعا.. مش زي مفهومنا الحالي للديمقراطية.. انما كان اختيار المجلس اللي بيحكمها مبني علي ملكية الاراضي الزراعية.. و السطوة الاقتصادية..
يعني الأغنياء هم اللي بيحكموا…
وكان فيه عبيد .. و فلاحين .. و صناع.. ما لهمش دعوة بإدارة البلد..
انما لما المسائل ابتدت تِزَنّق.. لجأوا لقواد الجيش.. عشان يتوسعوا.. و ياخدوا اراضي اوروبية علي حساب قبائل الصيادين اللي كانوا لسه موجودين في چرمانيا ( المانيا ).. و بلاد الغال ( فرنسا ) و شبه الجزيرة الإيبيرية ( إسبانيا ).. و الجزر البريطانية ..!
و ظهر قائد عبقري تاني.. ( شبه نفسه احيانا بالاسكندر الاكبر ).. اسمه “يوليوس”..
فإغتصب الحكم في روما بقوته العسكرية .. و نصب نفسه امبراطور ..!
و قدرت الجحافل الرومانية تضم منطقة الشرق الاوسط و الشام .. و شمال افريقيا.. للإمبراطورية..
انما طبعا.. اتقتل “يوليوس قيصر” فورا.. و كانت روما علي وشك انها تنهار .. لولا انتصار الإمبرياليين.. اللي هزموا الجمهوريين اللي ثاروا عليه.. و بعد معركة “آكتيوم”.. اللي اشتركت فيها “كليوباترا السابعة” آخر ملكة في الاسرة البطلمية.. مع عشيقها الروماني “ماركوس أنطونيوس”..وقعت مصر تحت السيطرة الرومانية..!
و اصبح البحر المتوسط.. بحيرة رومانية !
و بعد فترة قليلة.. ابتدت تقوم ثورات محلية ضد “روما”.. في فترة كانت البشرية ابتدت تدور علي الخلاص من كل المشاكل دي.. اللي زودها جشع الرومان.. و سيطرتهم المجحفة علي مقدرات الامور.. و اللي طبقوها بنظام إستعماري عنيف.. و مجموعة ولاه متعينين من مجلس الشيوخ الروماني.. و الامبراطور نفسه.. و نظام ضرايب قاسي..
و ابتدت خيرات كل البلاد .. و الحضارات الزراعية.. تتحول لروما.. اللي بقت عاصمة العالم :
Caput Mundi
و كانت المملكة اليهودية في ارض كنعان .. زيها زي غيرها.. جزء من الامبراطورية..
و بقي ملوكها .. عشان يحافظوا علي عرشهم.. مواليين للحكم الروماني..
و بيشاركهم في الحكم الوالي الروماني .. اللي كل مهمته جمع الضرايب.. و ارسالها لروما.. وسايب تفاصيل الحكم للملك.. اللي طبعا عايش.. ملك !
و من ضمن كل حركات التذمر اللي كانت بتحصل.. ظهر شاب بينادي بثورة .. اسمة ياشوا او يسوع .. من مدينة الناصرة… مش علي الحكم الروماني المجحف بس.. انما كمان علي رياء الحاخامات و الفريسيين ( علماء الدين ).. و استغلالهم للشعب.. خصوصا الفقراء.. و علي المبادئ الإنسانية المنتشرة في الفترة دي..!
تاريخيا.. كل اللي نعرفه عنه انه من الفرع الفقير .. لعيلة يهودية قديمة.. و ان ثورته اللي دامت تلات سنين.. كان لها اتباع كتير .. من اليهود الفقراء ..
و انهم استمروا يحملوا ذكراه.. و يكتبوا كلامه.. في مجموعات سرية.. حتي بعد اتحد عليه الرومان و حاخامات اليهود .. و لفقوا له تهم .. و اعدموه زي كل الثوار.. علي الطريقة الروماني المنتشرة في الفترة دي.. و هي الصلب حتي الموت !
طبعا اتباع يسوع .. بعد موت قائدهم.. فضلوا ينادوا بمبادئة و افكاره.. الانسانية و القومية.. و الدينية.. كحركة اصلاح للديانة اليهودية.. و دونوها في كتب متنوعة .. تداولوها في السر .. بشكل نصف منظم علي حسب ظروفهم.. و بدأت حركات دخول لليهودية لناس غير يهود.. من اسفل طبقات الشعب المطحونة.. تحت تعاليم يسوع..!
فتعرضوا للمساءلة.. علي ايد الرومان اللي بيحاولوا يحافظوا علي النظام الاستعماري..
انما خصوصا.. علي ايد الحاخامات و الفريسيين .. اللي كانوا شايفين فيها تهديد مباشر لسلطتهم.. و سطوتهم علي الشعب اليهودي.. في ظروف مهزوزة اصلا..!
و كان من اهم الفريسيين المتابعين لحركات الثوار المتذمرين دول.. موظف في الدولة الرومانية .. يهودي.. و مثقف علي الفلسفات الاغريقية.. اسمه “شاول الطرسي” من ولاية “جلاتيا” الرومانية (الاناضول )..
و لسبب ما.. بالرغم انه كان عمره ما قابل يسوع.. بدأ “شاول”.. اللي اتعرف بعد كده بإسم “بولس” بالاقتناع بأفكار يسوع.. بعد٣٠ سنه من صلب الشاب اللي حا يتعرف بعد كده بالمسيح..
و بعقل الفيلسوف و المثقف.. حول الافكار دي لديانة منظمة و تحول لناشط في الدعوة..
و عمل حاجة غيرت تاريخ البشرية : حول الديانة اليهودية القومية.. اللي كانت مقصورة علي العرق العبري.. الي ديانة مفتوحة لكل الناس… بنفس منطق الإمبراطورية الرومانية في انفتاحها علي كل مواطنين الامبراطوية بصرف النظر عن اصلهم العرقي..
و اسسها كديانة جديدة : المسيحية..!
طبعا.. بدايات الدعوة كانت قاصرة علي المبادئ الانسانية.. انما تحولت بسرعة لقوانين دنيوية.. و تشريعات لتنظيم العلاقات في المجتمعات المسيحية الاولي..!
فعارضوه بشدة اتباع يسوع.. بالذات اللي فيهم عاصروا الناصري ..خاصة انهم كانوا شايفين ان الديانة اليهودية .. لها علاقة وطيدة بالعرق العبري .. و ان “آدوناي” بالرغم من كونه الإله الواحد.. هو إله اليهود و ليس لغيرهم..!
و حدثت مواجهات كبيرة بين بولس .. و اتباع يسوع.. غيرت خطته.. بدأ ينادي بالمسيحية اساسا في غير اليهود.. و قرر ان اليهود بيتعالوا علي باقي البشر.. و ابتدي ينتقد الديانة اليهودية بشكل واضح..
و بدأ يبشر بالمسيحية بعيد عن اليهود.. في ارجاء الامبراطوية..!
طبعا .. ده جابله مشاكل مع روما..
و ابتدا الرومان يبصوا للدين الجديد علي انه منافي لتعدد الآلهة الرومانية.. و المحلية.. و ان التوحيد بيهدد السلام في انحاء الامبراطورية.. Pax Romana
و فعلا .. اعدم بولس حوالي سنة ١١٠ م. بقطع الرأس.. دون تعذيب.. لأنه كان مواطن روماني..!
و سقطت روما بعد فترة.. و انقسمت الامبراطورية لتلات اجزاء كبري.. و ما اتحدتش تاني الا في ايام الامبراطور “قستنطين” اللي قدر ينتصر عسكريا علي منافسيه.. و حكم من مدينة بيزنطة (القستنطينية – او اسطانبول الحالية ) و ادخل المسيحية كديانة الامبراطورية الرسمية.. بشكل درامي جدا.. قد يكون للإستعانة بفكرة التوحيد .. للوصول الي السلطة المطلقة..!
و بمجرد ما تحولت الامبراطورية للمسيحية.. حصل اعادة تنظيم للدين الجديد.. و تحول من دين للفقراء و المطحونين .. لدين لكل الناس.. و احتوي ديانات اخري .. واضيفت له ميثولوچيات من ديانات الدولة المتنوعة.. منها الديانة الأوزيرية المصرية..
و تخلت الكنيسة عن كتابات الناس اللي عاصروا يسوع.. و اتفق آباء الكنيسة علي “نسخ رسمية” لما سمي بالاناجيل.. او العهد الجديد… و انفصلت الديانة الجديدة تماما عن جذورها اليهودية.. الا في احتفاظها بأسفار التوراه .. المأخوذة اصلا من المعبد المصري .. و نصوص اخناتون.. و اللي اتعدلت لتجعلها كلها تنبئ بالمسيح بشكل او بآخر..!
و حيث انها بقت .. دلوقتي .. دين الدولة الرسمي.. اتغيرت فيها مبادئ كتير.. عشان تساهم علي الحفاظ علي نظام الدولة الاقتصادي.. و نظام الحكم !
و علي حسب المناطق الجغرافية.. و تأثير الحضارات الزراعية المختلفة علي الفلسفة.. حصلت انقسامات مذهبية داخل الكنيسة.. و لازالت بتحصل حتي يومنا هذا ..
انما.. نادرا ما كانت بيرتفع صوت الديانة – اللي قامت اصلا علي تعاليم شاب فقير .. و الدفاع عن المظلومين و المطحونين من البشر – للدفاع عن شعوب لسه بتتعامل مع الطبيعة بنظام الصيادين الأوائل..!
و التزمت بسياسات حضارة المزارعين .. في سحق القبائل المنتمية للنظام الطبيعي..!
و سقطت قبائل الصيادين في چرمانيا.. و بلاد الغال.. و الجزر البريطانية.. و آيرلاندا.. بعد ما عاشو آلاف السنين في غابات أوروبا الغربية..
و اتزالت غاباتهم المليانة بالفرائس.. و بالثمار.. و اتحولت لأراضي زراعية.. كل مهمتها انها تنتج الحبوب.. و مواشي المراعي.. لتغذية الامبراطورية الرومانية الشرقية..
و اصبحت الديانة المسيحية فخ.. بيقع فيه الصيادين.. لمجرد اقتناعهم بمبادئ التسامح اللي علي السطح.. فيطلب منهم فور دخولهم في الديانة .. انهم يتحولوا من نظامهم الازلي.. الي النظام الزراعي.. و الطاعة للحاكم.. و دفع الضرايب.. تحت تهديد الاتهام بالكفر.. و المحاكمة بتهمة الاعمال الشيطانية..!
اما احداث الاسكندرية.. و حرق مكتبتها الشهيرة..
فكانت خطوة عملاقة .. في طريق نسيان اصول البشرية..
و خروج الانسان من الجنة..!
الي اللقاء في الحلقة السادسة..!
ايه بقى الحكاية | الجزء السادس
قبل ما نكمل ..
لاحظت ان فيه بعضكم.. سايب فكرة البوستات دي..
سايب حكاية ان البشر عاشوا مئات الآلاف من السنين .. في سعادة .. و بساطة.. في كنف الطبيعة..
و انهم لما قرروا لسبب شرحناه في الجزء رقم (١).. انهم يتولوا بنفسهم مهمة العناية بمستقبلهم..
فقدوا الاحساس بالإتزان الطبيعي.. و بعناية الطبيعة لهم.. و دخلوا في دايرة مفرغة من زيادة التعداد.. والجشع.. و الطمع.. و ابتدوا يرتكبوا انواع من الجرايم اللي نادرا ما كانت موجودة في المجتمعات الاولي.. و ابتدوا ـ عشان يسيطروا علي الموقف ـ يحطوا قوانين ..بعضها ضد الطبيعة الاصلية للإنسان.. و يطبقوها بعنف.. فزادت الجريمة.. و الازدواج في الاحكام.. و اتخلقت الطبقات.. و الإستغلال..
ثم الدول.. و الامبراطوريات…
و لأن البشرية – او علي الاقل الجزء الزراعي منها – كانت حاسة بالضياع و التوهان.. ظهرت الاديان.. اللي بسرعة اتحولت علي ايد البشر لأدوات سيطرة.. و توسع.. و استعمار..!
ساب بعضكم كل ده.. و مسكلي علي الواحدة.. في تفصليات موجودة في كل الكتب المتاحة اللي بتتكلم في تفاصيل الاديان…!
ده.. ان دل علي شيئ.. فيدل علي منتهي قصر النظر.. و التعنت.. و رفض التفكير في الموضوع اللي بنتكلم فيه..! و كمان يدل علي سوء النية من اول الرحلة.. و تحايل علي الشروط اللي حطيتها من الاصل.. بوضوح..!
للأسف.. مش حا تسمعوا مني ولا فتفوتة من الكلام اللي عاوزين تسمعوه ده.. و اللي مش مستريح للشروط.. يترك الرحلة فورا.. لان فيه ناس غيركم عاوزة تكمل .. و تحاول تفهم..!
طيب نكمل بقي…
نسيب أوروبا و الشرق الاوسط مؤقتا.. و نزور باقي العالم القديم..
ظهرت الزراعة في مكانين مهمين جدا .. بعد فترة وجيزة من ظهورها في بلاد بين النهرين و مصر:
الهند.. و الصين.. !
في الهند.. من عند قاعدة جبال الهيمالايا.. لغاية شمال شبه الجزيرة الهندية..
عمل المزارعين نفس اللي اتعمل عندنا و في اوروبا..
و هربت قبائل الصيادين و قاطفي الثمار للجنوب .. و عاشوا في الغابات الإستوائية.. زي ما حصل في افريقيا.. و بقوا ـ لما تزحف عليهم الزراعة ـ يا إما يتوغلوا في الغابات.. و يرحلوا للجزر النائية.. يا اما تستهويهم الحياة الزراعية و رونقها الكاذب.. و يتحولوا لمزارعين…!
اما في الصين.. فضلت الزراعة تنتشر لغاية ما غطت اغلب الاراضي اللي كان عايش فيها الصيادين.. اللي اما اتقتلوا .. او هربوا الي الهضاب العالية.. و تحولوا من حياة الصيد و قطف الثمار .. لحياة الرعي.. و ده كان كمان كسر للقانون الطبيعي.. انما بشكل اقل اجحافا من الزراعة..
بس ده ما منعهمش انهم يتزايدوا.. و يكونوا قبائل ضخمة بالرغم من ترحالهم المستمر.. و كونوا قوة عسكرية .. عوضت عدم نظامها .. بفن حرب العصابات !
و ابتدت القبائل دي تهاجم مدن الزراعيين .. و تحاول تسيطر عليها..
و فكرت الامبراطورية الصينية .. بعد ما فشل ردع القبائل دي من خلال الجيوش الجرارة.. و الحملات التأديبية.. لفكرة جديدة : و هي بناء سور الصين العظيم.. اللي وصل طوله في فترة معينة لحوالي ٢٣ الف كيلومتر طولي .. من القلاع و الجدران .. و وسائل الانتقال.. و التحذير المبكر !
و طبعا في البحار .. ظهروا القراصنة اللي عاشوا علي نهب السفن التجارية اللي ابتدت تجوب كل البحار المعروفة.. و المحيط الهندي.. و تعتدي من البحر علي المدن الساحلية.. و منهم قراصنة بحر الصين اللي قدرت الامبراطورية الصينية انها تطردهم من علي شواطئها.. فراحوا استقروا في الجزر اليابانية.. و قتلوا السكان الأصليين من الصيادين من الجنس القوقازي (اللي بعضهم لسه موجود في اليابان لليوم ).. و أنشأوا حضارة زراعية زي الحضارة الصينية.. و امبراطورية لسه مجوده..!
و في اثناء ما كانت الصين بتبتدي تفكر في بناء سورها العظيم.. عشان تحافظ علي امبراطوريتها الزراعية..
و في نفس الوقت اللي زادت فيه المعارك بين امبراطورية الفرس الضخمة.. و الامبراطورية الرومانية الشرقية.. اللي كانت تحولت للمسيحية و قضت تماما علي كل الحضارات القديمة اللي شافت تحول البشر من نظام الصيد الي النظام الزراعي..
ظهر بين قبائل شبه الجزيرة العربية .. اللي كانت معظم نشاطها تجاري يعتمد علي نقل البضايع و السلع بين الممالك الهندية عن طريق اليمن.. و الامبراطوريات المتناحرة في الشام و البحر المتوسط.. دين توحيدي جديد.. الإسلام..!
و بالرغم من تشابه مبادئه بالاديان التوحيدية (الابراهيمية ) الاتنين اللي سبقوه.. الا انه ظهر بفكر جديد مبني علي المساواة بين كل اعضاءه و الإنضباط في طقوسه و التكافل الاجتماعي بين افراده..
و اضاف الي مبادئه فكرة نشر الدعوة بين قبائل العرب.. بالمثل الاعلي و حرية الاختيار..
انما كمان بالقوة لو لزم..!
و بمجرد وفاة نَبيه محمد.. اضطر خلفاؤه لشغل الفراغ .. اللي هدد الدين الجديد بالانهيار بسبب الخلافات الداخلية ـ سواء علي السلطة.. او النزاعات العرقية.. فاضطروا لإعلان الجهاد و التوسع و الانتشار السريع.. علي حساب الامبراطورتين .. الفارسية و الرومانية..
و لأن الامبراطوريتين كانوا وصلوا لحالة من الظلم و الاستغلال للشعوب المُستَعمَرة.. وقعت في ايد العرب دول كتير من اللي كانوا متذمرين علي الفرس و الرومان.. منهم الشام.. و مصر.. و شمال افريقيا..
و من الشرق .. العراق .. و اخيرا الامبراطورية الفارسية نفسها..!
و انكمشت الامبراطورية الرومانية في الاناضول و اوروبا..!
و ورثت الامبراطورية الإسلامية الجديدة.. كل مراكز الحضارات القديمة.. خصوصا بابل و فارس.. و مصر !
و بدخول المجتمعات الزراعية القديمة في الامة الاسلامية.. بكل علومها و فنونها.. ظهرت في كل انحاء الامبراطورية علوم و فنون لها طابع مختلف.. و ازدهرت الدولة لفترة الخلافة الاموية و الجزء المبكر من العصر البغدادي للدولة العباسية..
انما.. بمجرد انتهاء فترة الخلفاء الراشدين.. تحول الحكم في الدولة الإسلامية من المبايعة.. و هي نوع من الانتخاب.. لنفس نظام الحكم اللي كان موجود في ممالك العالم.. مع الفرق ان حكامها اتخذوا منصب مزدوج.. هو امارة المؤمنين و عرش الدولة .. بينما ظلت الدول المسيحية محتفظة بعرش مختلف للرئيس الديني.. يتوج الملوك.. و يصدر فرماناته الدينية.. دون التدخل – ظاهريا – في امور الحكم..!
و تسبب النظام القائم للدين المسيحي.. في توحيد الممالك الأوروبية المتناحرة.. و توجيههم (زي ما عمل العرب المسلمين في بدايات الاسلام ) للغزو الخارجي.. و بدأت الحروب الصليبة بين اوروبا و الجزء الغربي من الدولة العباسية..و اللي فضلت مشتعلة.. بشكل غير مستمر .. و علي موجات.. حوالي ٤٠٠ سنة.. و انتهت بأن حصلت اوروبا علي المعلومات اللي تكفيها لدخول عصر النهضة.. و اللي حا يوصلنا بعد فترة للثورة الصناعية.. و عصر الإستعمار الأوروبي.. و الثورات الإجتماعية التانية..
انما نرجع لورا شوية..!
ظهر في نص القرن ١٣ خطر جديد..
اتحدت قبائل التتار الرعوية.. تحت قيادة “چنكيز خان”.. و قدرت تنتصر علي عدوها الاول .. الصين..!
و لانها غير مرتبطة بالزراعة.. قدرت بسرعة تحتل معظم آسيا.. و وصلت للدولة الاسلامية.. و اجتاحتها.. و دمرت عاصمتها بغداد..
انما النظام القبلي الرعوي ما كانش له الثبات الحضاري بتاع الزراعيين (زي الحيثيين و الهكسوس من قبلهم.. ) و ضعفت قوتهم بسرعة.. و انتهي تقدمهم.. و بالتالي وجودهم العسكري.. عند مصر اللي كان بيحكمها المماليك..!
و بعدها بفترة قصيرة.. كانت التحالفات المسيحية في جنوب فرنسا .. و شمال اسبانيا.. بتحارب المستعمرة العربية الوحيدة في اوروبا .. الأندلس..!
و في نفس الوقت.. كانت القبائل التركية ( من منطقة تركمانستان في شرق ايران..) قدرت تسيطر علي الدولة العباسية.. و استعدت لظهور الخلافة العثمانية..!
و في سنة ١٤٩٢.. حصل حاجتين :
اولا.. استسلمت مملكة غرناطة.. آخر ممالك العرب في الأندلس.. لتحالف القوي المسيحية .. مملكة كاسيليا و اراجون.. و انتهي الحكم العربي في الاندلس.. تقريبا في نفس الفترة اللي كانت جيوش سليم الاول العثمانية .. بتتقدم لاحتلال القسطنطينية.. عاصمة الامبراطورية الرومانية الشرقية..
يعني.. كانت الحرب بين العرب و الاوروبيين .. وصلت لمرحلة الاتزان في القوة.. و بقي شبه مستحيل لأي واحد فيهم التوسع علي حساب التاني…
ثانيا.. و ده الاهم.. ابحر من اسبانيا.. بتمويل من الملكة ايزابيلا.. و بقيادة بحار عربي .. يحمل اسطرلاب فارسي.. مغامر كان حا يحول.. بلا رجعة.. نظام الحياة علي الكوكب :
“كريستوفر كولومبس”..!
طول الزمن ده.. من ظهور اول الزراعات.. و اثناء صعود و سقوط ممالك و امبراطوريات.. من حوالي ٣٠ الف سنة.. كانت حصلت هجرات من الصيادين و جامعي الثمار .. خلال مضايق “بيرنج” اللي بتفصل الطرف الشرقي لآسيا.. عن آلاسكا في القارة الامريكية الشمالية..
و نزلت قبائل الإنسان الاول.. علي القارة.. و استقرت فيها.. و كونت مناطق نفوذها.. لغاية الطرف الجنوبي لأمريكا الجنوبية..!
و عاشوا كل القرون دي .. علي نظام الصيد و قطف الثمار .. و الترحال في دواير .. بنفس النظام اللي عاشوا بيه من قبل وصولهم لامريكا..
و اتزنوا مع الطبيعة.. فوقف تعدادهم عند ٤٠ مليون للقارتين و ثبت لمدة ١٥ الف سنة لغاية سنة ١٦٠٠م… ( القارتين اللي دلوقتي تعدادهم تقريبا .. مليار !)
و حاولت بعض القبائل تعتمد علي الزراعة.. كنوع من مساعدة لنظامهم العادي.. فما نجحوش الا في منطقة امريكا الوسطي… اللي فيها غابات مليانة بالفرائس و الفواكه… و عملوا حضارات المايا .. و الآزتيك.. و الإنكا في امريكا الجنوبية.. و وصلوا لمستوي عالي من التقدم.. و الصناعات.. انما ما قدروش يستمروا .. و وقعوا بمجرد دخول الاسبان و البرتغاليين للقارة..
و علي مدي الميتين سنة اللي بعد وصول “كولومبس” للقارة ( اللي مات وهو فاكرها شواطئ آسيا الشرقية.. و عشان كده سمي سكانها “هنود” ) و الموجات المتتالية للمهاجرين و المستكشفين .. و المغامرين.. و المجرمين المنفيين من اوروبا.. حصلت اكبر مجزرة قام بيها احفاد الزراعيين ..
في الاول.. عملوا اتفاقيات مع بعض القبائل الكبيرة.. و حاربوا القبائل الصغيرة.. حرب ابادة..!
و بعدين.. دخلوا في حروب مع القبائل الكبيرة.. عشان يتوسعوا غربا..
و كانت كل الوسائل مشروعة للرجل الزراعي.. في حربه ضد السكان الاصليين..
لدرجة انهم في فترة .. بعتوا لهم هدية.. عبارة عن بطاطين صوف.. ملوثة بفيروس الجدري..!
و بعد ما ادخل الاوروبيين القطار في بدايات القرن ال١٩.. و قطعوا بيه اراضي الصيد و مناطق نفوذ القبائل.. ابتدوا يقتلوا ملايين الرؤوس من الجاموس الوحشي الامريكي ( البايزون ) اللي كانت القبائل بتصتاده بالواحد.. و كانت كل قبيلة بتعيش علي تلات او اربع افراد منه في السنة.. و بتستخدم كل شعرة فيه..!
و اتسابت جثث الجاموس الوحشي.. بالآلاف.. مرمية في البراري.. تعفن.. و تنذر بالنهاية للرجل الاحمر.. !
و في امريكا الجنوبية.. ما كانش الاسبان ارحم من الانجليز و الفرنساويين في الشمال..
و كان هدفهم الوصول للدهب اللي اشتهرت بيه حضارات المايا و الآزتيك.. و كانوا بمجرد الحصول علي المعدن الاصفر.. يخيروهم بين الدخول في المذهب الكاثوليكي المسيحي.. او الاعدام !
و عرف العالم الطماطم.. و الكاكاو.. و الدخان.. و استخدم الاوروبيين السكان الاصليين كعبيد لزراعة المحصولات اللي كانت اوروبا ابتدت تحبها..
و وقع تعداد الهنود الحمر .. الي اقل من مليون.. علي كل القارة..
فقرر الاوروبيين انهم يستوردوا عبيد من الصيادين “المتخلفين” من القارة السوداء..
و يستعملوهم في زراعة الحبوب.. القمح و الذرة.. و القطن..!
طبعا.. نفس نوع الإستغلال.. حصل علي القارة الاسترالية.. مع الفرق ان اغلب البيض اللي اتنفوا هناك كانوا المجرمين الخطرين.. و لما زادت المشاكل بسبب عدم الزواج.. بعتت لهم انجلترا.. اللي كان ظهر فيها تيار ديني متشدد.. كل العاهرات اللي كانوا بيشتغلوا في بيوت دعارة المتخصصة في خدمة البحارين .. بتوع الاسطول البريطاني العظيم..!
و بكده.. انتشر الفكر الزراعي في كل انحاء الأرض.. و زادت مشاكل الصراعات علي الاراضي.. و المية العذبة.. و الحروب.. و صناعات الاسلحة .. و العقاقير المخدرة..
و طبعا استمر انتشار النظريات الدينية اللي ساهمت طول الوقت في نسيان الإنسان لأصوله الطبيعية.. و اللي كانت ظهرت اساسا علشان الناس ما يعيشوش في حالة من اليأس الدايم..
فإنتشرت فكرة اننا :
“كنا طول عمرنا كده.. و ان ده قدرنا.. و رغبة الآلهة.. ( ثم الإله الواحد ) .. و ان الانسان بطبعه سيئ… و محتاج خلاص.. و تكفير عن ذنوبه.. و انه مقابل رضاه بمصيره.. و سعيه لإرضاء الرغبة الإلهية ـ و الحكام.. و الأغنياء ـ بعد ما يموت حا يروح الجنة.. و لو ما عملش كده.. حا يروح النار..!”
نفس منطق اننا بنغمي البقرة اللي بتدور الساقية..
عشان ما تحسش انها ماشية في دايرة مفرغة..!
لقاء آخر .. مع الحلقة السابعة و الأخيرة..!
ايه بقى الحكاية | الجزء السابع ” النهاية “
الحلقة الاخيرة دي معظمها مش من كتاباتي..
انما عاوزكم تقروها كويس.. بتمعن و قلب صافي.. و ذهن متفتح.. و ضمير صاحي..!
و لي تعليق في آخرها..!
اثناء ما كانت امريكا بتواجه مشاكل العبودية.. و تجارة الرقيق .. في ولاياتها الجنوبية.. و بتستعد لحربها الاهلية..
كان الرئيس الرابع عشر .. “فرانكلين پيرس”.. بيحاول يشتري اراضي آخر قبائل الهنود الحمر ..
في اقصي شمال الولايات المتحدة الغربي.. عند ولاية “واشنطون”..!
و بعت رسالة لزعيم القبيلة.. علي يد حاكم الولاية “إسحاق إنجالز ستيڤنز” بيوعده بمحمية تأوي افراد القبيلة مقابل التخلي عن منطقة النفوذ التقليدية..
و كان زعيم القبيلة.. الزعيم “سياتل” (اللي اتسمت علي اسمه مدينة سياتل عاصمة الولاية ) من محبي السلام.. و رفض القتال ضد الرجل الأبيض.. خصوصا انه كان عارف تبعات القتال ضد الأوروبيين المستعمرين..
“سياتل” كان قبل.. لحقن الدماء.. انه يدخل في دين الاوروبيين (المسيحية الكاثوليكية) في سن متقدم..
انما كان محتفظ بديانته البدائية الأصلية في الفترة اللي باتكلم عنها..
و في المقابلة الرسمية مع المحافظ (حاكم الولاية ) يوم ١١ مارس ١٨٥٤…
خطب زعيم آخر قبيلة من الصيادين و جامعي الثمار بلغته الأصلية..
اللي دونها المترجمين بلغة هندية اكثر انتشارا ( الشينوك ).. و ترجمت للإنجليزية فيما بعد..
[ملحوظة: لما بيتكلم عن “زعيم واشنطون الكبير” بيقصد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ]و ده نص الخطاب :
” إن زعيم واشنطن الكبير يقول لي، في رسالته، انه يريد أن يشتري بلادنا…
ويقول لي انه صديق، وانه يكن لي مودة عميقة. ما ألطف زعيم واشنطن الكبير، لاسيما انه في غنى عني وعن صداقتي… لكننا سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير، فنحن نعرف أننا إذا لم نبعه بلادنا فسوف يجيئنا الرجل الأبيض مدججا بسلاحه وينتزعها…
كيف نستطيع أن نبيع أو نشتري السماء ودفء الأرض…؟ ما اغرب هذه الأفكار.كيف نبيع طلاقة الهواء ؟ كيف نبيع حباب الماء ونحن لا نملكها ؟
كل شبر من تراب هذه البلاد مقدس عند شعبي و كل خيط من ورق الصنوبر، كل شاطئ رملي، كل مدى من الضباب في غياهب الاحراش.. كل حشرة تمتص ما تمتص أو تطن.. كله مقدس في ذاكرة شعبي وتجربته مع الحياة..!
النسغ الذي يسيل في الأشجار يجري بذكريات الإنسان الأحمر…! موتى الإنسان الأبيض ينسون مهدهم عندما يمشون بين النجوم… أما موتانا فأبدا لا ينسون الأرض الطيبة لأنها أم الإنسان الأحمر… نحن منها، وهي منا… الأزهار العاطرة أخواتنا. الغزال والحصان والنسر العظيم كلهم أخوتنا. القمم الصخرية ، ندي المروج، ودفء جسد الحصان، كلها من هذه الاسره الواحدة…
و إذن، فحين يقول زعيم واشنطن الكبير انه يريد أن يشتري بلادنا، وانه سيهبنا مطرحا يلمنا، نعيش فيه سعداء، وانه سيكون لنا أبا… وإننا سنكون أبناء له. لذا.. سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير حول شراء بلدنا.. علما بانه عرض لا يطاق..!
لان أرضنا مقدسة… هذه المياه التي تشع وهي تجري في السواقي والأنهار ليست مياها: إنها دماء أجدادنا. وإذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر أنها مقدسة… وقل لابناءك إنها مقدسة… كل طيف يترائي في صفاء مياه البحيرات ينبئك عن ذكريات شعبنا وتاريخه. وما تهمس به المياه هو صوت جدي، هذه الأنهار إخوتنا، إنها تطفئ ظمئنا، وتحمل مراكبنا، وتطعم أطفالنا وإذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر وعلم أبناءك إن هذه الأنهار إخوتنا… وعليك أن تحبها كما تحب من ولدته أمك… ينهزم الإنسان الأحمر أمام زحف الإنسان الأبيض مثلما ينقشع ضباب الجبال أمام شمس الصباح…
لكننا نرى رماد آبائنا مقدسا، وقبورهم بقيعا مقدسا. وهكذا نرى الهضاب والأشجار، ونعتبر هذه البلاد قسمتنا… ونعرف أن الرجل الأبيض لا يفهمنا تستوي هذه الأرض عنده والأرض المجاورة، لأنه الغريب الذي تسلل في ظلمات الليل فنال من هذه الأرض كل ما تمنى، انه لا يرى الأرض ويتركه وراء ظهره ولا يعبأ. انه يسرق الأرض من أبنائها ولا يعبأ. هذه قبور آبائه ومهاد أبنائه منسية… وها هو ينظر إلى آمه السماء فلا يراها إلا سلعة تسرق أو تباع كالأغنام والخرز… إن جشعه يلتهم الأرض فلا يغادرها الاصحراء…!
لا يترك هذا الرجل الأبيض حيث يحل ويرحل شبرا من ارض دون ضجيج… لم يبق لديه مكان لسماع حفيف الأوراق وتفتحها في الربيع، أو لسماع طنين أجنحة الحشرات. ولكن، لربما إنني متوحش.. لا افهم. إن الضوضاء تصم الأذنين… وماذا يتبقى للحياة حين يعجز الإنسان عن سماع صرخة طائر السبد.. أو يصغي في أعماق الليل لنقاش الضفادع حول البركة.. لكن لربما إنني إنسان احمر، لا افهم…!
الهنود يفضلون الريح العذب وهي ترمح فوق بركة المياه، ورائحة الريح المعشقة بمطر الظهيرة أو المعطرة برائحة الصنوبر.الهواء عند الإنسان الأحمر ثمين، فكل ما على الأرض يتنفس منه… الحيوان والأشجار والبشر كلهم يتنفسون من نفس واحد. أما الإنسان الأبيض فيبدو انه لا يعرف انه يتنفس… وكأنه رجل مات منذ أيام.
كل ما فيه بليد حتى النتانة. ولكن إذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر أن الهواء ثمين عندنا، وان روح الهواء تتغلغل في كل من يتنفس منه… إن الريح التي وهبت جدنا الأكبر أول شهيق هي التي استردت منه زفيره الأخير..! إن على هذه الريح إن تمنح أبناءنا روح الحياة فإذا بعناك بلادنا ما جعلها حراما، وقدسها كأنها مقام يحج إليه الرجل الأبيض ويتذوق فيه الريح المحلاة بأزهار المروج.
وأذن… فسننظر في عرض شرائك بلادنا، وسيكون لنا شرط واحد إذا قبلنا بيعها: أن يعامل الرجل الأبيض حيوانات الأرض كما يعامل إخوته… لربما إنني متوحش ولا افهم، لكنني شاهدت ألف جاموس منتن في البراري قتلها الرجل الأبيض من قطار عابر… لعلي متوحش ولا افهم كيف إن هذا الحصان الحديدي المدخّن أعظم في عينيه من الجاموس الذي لا نقتله إلا لكي نبقى على قيد الحياة..؟
ما الإنسان بدون هذه الحيوانات ؟ إذا انقرضت فسوف يموت من توحش روحه. ما يصيب الحيوانات سرعان ما يصيب البشر، فكل الأشياء متمازجة…! لابد أن تعلم أبناءك إن أديم الأرض تحت أقدامهم من رفات أجدادنا…! بذلك يحترمون الأرض. علمهم ما علمنا أولادنا إن هذه الأرض أمنا… وان المكروه الذي يصيبها سوف يصيب أبناء الأرض !
إذا بصق إنسان على الأرض فإنما يبصق على نفسه.هذا ما نعلم..!
إن الأرض لا تعود إلى الإنسان، بل هو الإنسان يعود إلى الأرض. هذا ما نعلم: كل الأشياء متمازجة كما الدم الذي يوحد العائلة. كل الأشياء متمازجة… ما يصيب الأرض سوف يصيب أبناء الأرض. الإنسان لا ينسج عنكبوت الحياة بل هو خيط في هذا النسيج. وما يفعله للنسيج يفعله بنفسه.لكننا سننظر في عرضكم أن نذهب إلى المطرح المخصص لشعبي لنعيش وحدنا بسلام. لم يعد يهم أين نمضي بقية حياتنا إنها معدودة، بضع ساعات إضافية، بضع شتاءات..
ثم لن يكون هناك أطفال من هذه الشعوب العظيمة التي عاشت يوما على هذه الأرض، وها هي ذي شراذم ضئيلة تتسكع في أعماق الأدغال… لن يكون هناك أطفال يبكون على قبور بشر كانو ذات يوم مثلكم أقوياء طافحين بالآمال. ولكن لماذا ابكي زوال شعبي؟
إن القبائل لا يصنعها إلا الرجال. أما الرجال فيجيئون ويرحلون مثل أمواج البحر.حتى أنت أيها الرجل الأبيض الذي تمشي مع ربك وتحاكيه صديقا لصديق لن تنجو من هذا المصير. ولعلنا في النهاية أخوة. وسوف نرى… اعلم شيئا واحدا قد يكتشفه الرجل الأبيض يوما. اعلم أن الهي وإلهه واحد… إنكم تعتقدون أنكم تملكون هذا الإله مثلما إنكم تريدون أن تملكو أرضنا. انه اله الإنسان، وقد وسعت رحمته الإنسان الأحمر والإنسان الأبيض… إن هذه الأرض غالية عنده. وان إيذاء الأرض لابد أن يثير غضب خالقها. لسوف تمضي أيها الإنسان الأبيض… وربما ستمضي قبل غيرك. هيا أمعن في تلويث فراشك ولسوف تختنق يوما في قمامتك…!
لكنك ولحكمة لا يعرفها إلا الإله الذي جاء بك إلى هذه البلاد أعطاك سلطانا على الأرض وعلى الإنسان الأحمر. إن هذا المصير ما يزال لغزا عندنا… أين الغزلان الإلك..؟ ولّت ! أين النسر..؟ اختفى..! ما معنى أن تقول وداعا للصيد وللحصان الرشيق..؟ إنها نهاية الحياة وبداية مغالبة الموت…
وإذن… سننظر في عرضك أن تشتري بلادنا…! فلئن رضينا فلكي نأمن على أنفسنا في ما وعدتنا به من مطرح نعيش فيه. هناك ربما ، سوف نعيش أخر أيامنا وحينما يزول أخر إنسان احمر فوق الأرض ، ولا يبقى منه إلا ظلال سحابة تعبر البراري .. ستظل هذه الشطأن و الغابات مسكونة بروح شعبي..! وإذن إذا بعناك أرضنا فاحبّها كما يحب الوليد خفقان قلب أمه… و إذا بعناك أرضنا فأحبّها كما أحببناها… واستوصي بها خيرا كما استوصينا… واحتفظ من أرضنا بصورة لها مثلما كانت يوم أخذتها… وبكل ما أعطيت من سلطان، وكل ما فيك من عقل وقلب: استوص بأرضنا وصنها.احبّها كما يحبنا الله جميعا.
إنني اعلم إن ألهنا وألهكم واحد، وان هذه الأرض غالية عليه. واعلم أن الرجل الأبيض أيضا لن يفلت من يد المصير… وفي النهاية لعلنا إخوان. وسوف نرى … إننا سنتفكر في عرضكم ملياً، ثم ننبئكم بما نقرر. لكننا إذا كنا لنقبله فإنني أضع شرطي الأول هنا والآن:
أن لا تنكروا علينا حق القدوم، دون إزعاج وعن طيب خاطر منكم، لنُلِم بقبور أسلافنا وأصدقائنا وأبنائنا.
إن كل جزء من هذا الثرى مقدس في عين شعبي.. كل سفح تلة.. كل واد وكل غيضة.. كل مكان هنا قدسته حادثة سعيدة أو حزينة في الأيام الخوالي التي طواها الزمان.. وحتى الصخور التي تبدو وكأنها تتمدد بكماء مهيبة وهي تسح العرق تحت الشمس على شاطئ البحر، كلها تمور بذكريات الأحداث التي تتصل بأقدار شعبي.
والتراب، هذا الذي تقفون الآن عليه، يستجيب بحب أكبر لدوس أقدام أبناء شعبي أكثر مما لأقدامكم، لأن مزاجه دم أسلافنا، ولأن أقدامنا العاريات تفهم لمسته الحانية. والرجال الجسورون، والأمهات المحبات، والعذارى ذوات القلوب السعيدة، والأطفال الصغار الذين عاشوا هنا ومرِحوا لفصل قصير.
كل هؤلاء الذين طوى النسيان أسماءهم، سوف لن يكفوا عن عشق هذه القفار الكئيبة، وسوف يلقون التحية على الأرواح الغامضة التي تعود في المساءات مثل الظلال وعندما يطوي العدم الرجل الأحمر الأخير، وتصبح ذاكرة قبيلتي محض أسطورة تدور بين الرجال البيض، فإن هذه السواحل سوف تغص بالموتى من أبناء عشيرتي الذين لا يحيط بهم بصر …
وعندما يظن أبناءُ أبنائكم بأنهم وحدهم في الحقول، في المخازن والدكاكين، على الطرقات العريضة أو حين يلفهم سكون الغابات التي بلا دروب، فإنهم لن يكونوا أبداً وحدهم، ولن يجدوا في الأرض الفسيحة كلِّها معتزلاً. وفي الليل، حينما يلف الصمت مدنكم وقراكم حتى تخالونها خلواً من الحياة، فإنها ستكون محتشدة بأصحاب الدار العائدين الذين ملؤوا هذه الأرض الجميلة ذات مرة.. والتي لا يكفون عن حبها…
الرجل الأبيض لن يكون أبداً وحده.. فليكن الرجل الأبيض عادلاً إذن وليرأف بشعبي، لأن الموتى ليسوا أبداً بلا حول.. هل قلت موتى؟.. ليس ثمة موت.. ثمة فقط تبديل عوالم.!”
الزعيم سياتل (١٧٨٠ ـ ١٨٦٦ )
عاوز كل واحد فيكم .. يسأل نفسه تلات اسئلة :
ـ هل ده كلام راجل متوحش.. و بدائي.. و جاهل.. و كافر..؟ و هل الناس اللي بتفكر كده.. محتاجة فعلا لديانات.. سماوية او غيرها.. و جنة و نار .. و ما اليه ؟
ـ هل هناك نص مكتوب .. قريتوه في اي مكان .. فيه الكم ده من الانسانية.. و الجمال.. و التحضر..؟
و كره العنف.. و الزهد في التسلط..؟
ـ ايه .. في نظركم .. مستقبل الحضارة الزراعية .. اللي احنا كلنا منها ..؟
ارجو انكم تكونوا فهمتوا قصدي بالبوستات دي…
فكروا .. و ابحثوا.. و راعوا ضمايركم..
و اوصلوا لإستنتاجاتكم الخاصة..!
تحياتي لكم جميعا…!